لبنان ومصر.. واستثمار «الثقة»
من مفارقات التاريخ المحفوظة في الذاكرة، أن البيئة العلمية والثقافية والمالية والاقتصادية التي ميزت لبنان في مرحلة ما قبل استقلاله وحتى عام 1975، لم يكن لها نظير عربي إلا مصر. ولذلك تجاذبت البيئتان اللبنانية والمصرية أنظارَ العالَم في أوائل خمسينيات القرن العشرين. ولوحظ أن لبنان استفاد من تداعيات سياسة «التأميم» التي نفذتها مصر في عهد الرئيس جمال عبدالناصر، وبرز كبيئة جاذبة للمستثمرين العرب والأجانب، وشهد أفضل حركة ازدهار مالي واقتصادي في فترة الستينيات، حيث تحولت الليرة اللبنانية إلى عملة دولية، واستطاعت البيئة المحلية المؤهلة أن تجعل هذا البلد مركزاً استثمارياً رئيسياً في منطقة الشرق الأوسط،. ونظراً لـ«الثقة الكبيرة» التي كسبها من المجتمعين العربي والدولي، فقد لُقِّب بـ«سويسرا الشرق».
ومع الأخذ في الاعتبار الفارق الكبير بين البلدين من ناحية المساحة وعدد السكان، فإنه على الرغم من التطورات السياسية والاضطرابات الأمنية التي شهدها كل منهما (وإن بتفاوت شديد) خلال العقود الخمسة الماضية، فقد حرصَا على استثمار «ثقة المستثمرين»، وحسن علاقاتهما بالمجتمعين العربي والدولي. وبالنسبة لمصر، فقد بدأت الانفتاح الكبير بعد حرب أكتوبر 1973 في عهد الرئيس أنور السادات، واستمر في عهد الرئيس حسني مبارك، ولا يزال مستمراً حتى الآن في عهد الرئيس عبدالفتاح السيسي. أما بالنسبة للبنان فشهد موجةً استثماريةً كبيرةً بعد الحرب الأهلية (1975– 1990) في عهد حكومة الرئيس رفيق الحريري، التي نفذت مشروع «سوليدير» بإعادة إعمار ما دمرته الحرب. وساهم ذلك في توفير فائض كبير في ميزان المدفوعات، مما أدى إلى زيادة حجم القطاع المصرفي ليتجاوز 276 مليار دولار، وبما يعادل خمسة أضعاف حجم الاقتصاد اللبناني الذي بلغ في عام 2019 نحو 54 مليار دولار.
لكن بعد مرور ثلاث سنوات على قرار اتخذته الحكومة السابقة برئاسة حسان دياب، في 7 مارس 2020، بوقف دفع الديون المستحَقة عليه، بدأ لبنان يفقد الثقة العربية والدولية به، وحتى ثقة اللبنانيين أنفسهم بقيادتهم السياسية. وأدى ذلك إلى انهيار مالي واقتصادي وتدهور في سعر صرف الليرة التي خسرت أكثر من 100% من قيمتها، وإلى حدوث خسائر تقدَّر بنحو 90 مليار دولار، واستنزاف احتياطي البنك المركزي. وفي ظل المؤشرات السلبية لعلاقات لبنان الخارجية، و«الانسداد السياسي» أمام انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تنفيذ توصيات صندوق النقد الدولي، يَتوقَّع معهدُ التمويل الدولي أن يسير الوضع من سيئ إلى أسوأ، وأن ينكمش الناتج المحلي الحقيقي بنسبة 7% ليصل إلى 14.8 مليار دولار خلال العام الحالي.
لكن خلافاً للقرار اللبناني، وبعد أن حصلت مصر على سلسلة قروض بقيمة 20 مليار دولار من صندوق النقد منذ عام 2016، أكد رئيس الحكومة المصرية مصطفى مدبولي «قدرة مصر والتزامها بسداد ما عليها، ودفع أقساط القروض وفوائدها في مواعيد الاستحقاق المحددة لها». ورغم التحفظات القائمة بشأن ظروف الأسواق العالمية، فقد نجحت القاهرة في إصدار صكوك إسلامية في فبراير الماضي للحصول على قرض بقيمة مليار ونصف مليار دولار. وكنتيجة طبيعية لـ«الثقة العربية والدولية» بمصداقية مصر، فقد تمت تغطية الإصدار باكتتاب بلغ 6.2 مليار دولار، أي أكثر أربع مرات من المبلغ المطلوب، واشترك فيه مستثمرون من دول الخليج وشرق آسيا، إلى جانب الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية. وهذا مع العلم بأن مصر سددت ديوناً بقيمة 26.2 مليار دولار خلال العام المالي 2021-2022، وهي ملتزمة ببرنامج أقساط مع فوائدها بقيمة 73.75 مليار دولار حتى نهاية العام 2026.
*كاتب لبناني متخصص في القضايا الاقتصادية