فرنسا وموضة الإضرابات
فرنسا هي البلد الأوروبي الذي يعرف أكبر عدد من المظاهرات والإضرابات، اليومية والأسبوعية والشهرية، حيث أصبح الإضراب والتظاهر موضةً فرنسية بامتياز، وكثيراً ما تجد نفسك محاصراً إما لأن سيارة الأجرة لا تستطيع الوصول بك إلى المطار، أو لأن رحلات الطائرة أو القطار ألغيت في آخر لحظة. المهم أن هناك سلسلة لا متناهية من الإضرابات التي بدأنا نضع لها ألف حساب عبر تتبع الأخبار وقراءة ما تريد أن تفعله النقاباتُ قبل أن نتخذ قرار السفر إلى فرنسا وقبل أن نحدد موعد الرجوع منها.
في السنين الأخيرة، تابع الجميعُ ما قام به المتظاهرون الفرنسيون أصحاب السترات الصفراء، والتي كان يتعين على جميع سائقي الشاحنات في فرنسا حملها في عرباتهم، في جميع أنحاء البلاد، وما وضعه السائقون من حواجز محترقة وقوافل شاحنات بطيئة الحركة. كان أولئك المحتجون يعارضون الضرائب التي فرضها ماكرون على الديزل والبنزين لتشجيع الناس على الانتقال إلى وسائل نقل صديقة للبيئة. ومن كان حاضراً في خلال تلك الفترة في باريس وزار جادة الشانزلزيه المشهورة ظن نفسَه في ساحة تمثيل فيلم حربي هوليوودي. فقد استخدمت الشرطةُ آنذاك الغازَ المسيلَ للدموع ضد متظاهري «السترات الصفراء»، واستعملت كل وسائل الكر والفر.
ثم كانت هناك مظاهرات عارمة في زمن كورونا احتجاجاً على قرارات فرض الشهادة الصحية والتطعيم الإلزامي على مقدمي الرعاية. وسمى المتظاهرون عمليتَهم تلك بضرورة محاربة «الدكتاتورية الصحية» التي اتهم الرئيس ماكرون بمحاولة فرضها في خرق لمبادئ حقوق الإنسان والحريات العامة! والصحيح أن تلك المظاهرات والإضرابات تمثل ظاهرة فرنسية بامتياز.
وفي هذه الأيام تعيش فرنسا مظاهرات حاشدة أخرى، حيث يعاني الكثيرون مرارةَ الشلل شبه الكلي الذي أصاب حركة النقل بسبب تواصل الإضرابات. وهي مظاهرات وإضرابات تأتي ضد مشروع القانون الذي تقدمت به الحكومة لتعديل نظام التقاعد، ومن أهم بنوده رفع سن الإحالة على المعاش من 62 إلى 64 عاماً. وعلى الرغم من التباين الكبير في تقدير أعداد المحتجين، فإن عدد المشاركين يزدادون في التعبئة، وهناك إجماع واسع على معارضة هذا التعديل.
وقد اختارت الحكومة الفرنسية أن تمدد سنوات العمل لمواجهة التدهور المالي لصناديق التقاعد وشيخوخة السكان، وإلى ذلك فهي تدافع عن مشروعها بالقول إنه «يحمل تقدماً اجتماعياً» خصوصاً من خلال تعزيز معاشات التقاعد الصغيرة.
ويحاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون «تغيير المياه الراكدة» في فرنسا، ولذا فهو يؤكد عدم تقديم أي تنازلات بهذا الشأن، وهو الذي اعتاد على مثل هذه المظاهرات، لأنها تشكل ظاهرة فرنسية بامتياز، كما قلنا، ومع ذلك فإن استمرارها يمثل خطراً على المستقبل السياسي للرئيس وحزبه. فالاحتجاجات من هذا النوع تضيف إلى الشارع كمية كبيرةً من التوترات والصعوبات، خصوصاً لدى الطبقة المتوسطة.
*أكاديمي مغربي