كأسُ الخليجِ.. لصحوةِ فرحٍ بالبَصْرةِ
انتهت دورة كأس الخليج العربيّ لكرة القدم بالبّصرة، بعد عشرة أيام مِن المباريات والمهرجانات الفنيَّة التي امتدت من 9 إلى 19 يناير 2023، والاحتفاء بضيوفها، وتقاطر بقية العراق إليها. نجحت مع أنَّ قوىً حاولت تضبيب الأجواء، فلا يطربها هذا التَّلاقي، تريد بقاء العِراق منفذ أزمات.
انتهت الدورة بفوز العِراق، وقد فاز بثلاث دورات سابقات(1979/1984/1988). حرصت الدول المشاركة أنّ تكون البَصرة راعية الدَّورة(25)، فالعِراق بحاجة لدملِ الجراحِ، منذ زمنٍ وهو يعاقر الرعب: تفجير يتبع تفجيراً، واختطافات تنتهي باغتيالات.
نستعير «الصَّحوة» عنواناً، فلا يبدو كان اسماً على مسمى، فالصحويون مِن أصحاب منابر لهم حرية العبث بالعقول، يتصايحون غيرةً على العفة والدين، وكأن بالبَصْرة ظهر دينٌ جديدٌ! وجوهر الزَّعيق ألا يُشغل الشَّباب عن حكاياتهم وخرافاتهم، وعندها تُغلق الدكاكين. هذا، ولسان الحال يقول: «والمُلصِقونَ بعرشِ اللهِ ما نسجتْ/ أطماعُهم: بِدعَ الأهواءِ والرِيّبا»(الجواهريّ، قف بالمعرة 1944).
أقول نستعير التسمية، فالبَصْرة أخذتها غفوة الأحزان، خلال حربيين كارثتين(1980-1988) و(1991) وثَّالثة لم تبق ولم تذر، يوم اختيرت أمّ قصرها بوابة الزحف حتى بغداد. أخذت سماؤها لسنوات تمطر صواريخ وقذائف، تركت النيران نخيلها جذوعاً بلا رؤوس، ثم طالها الحصار، والخراب بعد 2003.
اختفت ملامح المدنيَّة فيها، تلك التي أقامها مدير عام الموانئ مزهر الشّاويّ(ت: 1984)، خلال (1958-1963). كانت بداية مصلحة الموانئ(1919) ميناءً، وتطورت في(1956) لتكون «مصلحة الموانئ العِراقيَّة». غّير أنَّ هذا الضَّابط البغداديّ عملها مدينة كاملة بالمعقل(دليل الجمهوريَّة العراقيَّة 1960)، وبما أسس صارت البصْرة مِن أجمل المشاتي. أحبه البَصريون لأعماله الإنسانيَّة ونزاهته التي لا تشوبها شائبة، حتى جاء قرار عزله(1963). كانوا رجالاً لا يعرفون الطَّائفية ولا خيانة مالٍ أو وطن.
كان عزله مثالاً لتضييع الكفاءة والإخلاص، وهكذا كل ثورة تسقط ما قبلها، ممارسة قديمة يرصدها الجاحظ(ت: 355هج) في تهديم العُمران: يطمسون «آثار من قبلهم، وأنْ يميتوا ذكر أعدائهم، فقد هدموا بذلك السَّبب أكثر المدن وأكثر الحصون، كذلك كانوا أيام العجم وأيام الجاهلية، وعلى ذلك هم في أيام الإسلام، كما هدم عثمان صومعة غمدان، وكما هدم الحصون التي كانت بالمدينة، وكما هدم زياد كل قصر لابن عامر، كما هدم أصحابنا بناء مدن الشَّامات لبني مروان»(كتاب الحيَّوان). ومعلوم أنَّ إبعادَ أهلِ الكفاءةِ أفظعُ مِن هدمِ العمران وخسارته، وهذا ما حصل بقسوة وشراهة بعد خراب 2003 بقانون اصطلحوا عليه بالاجتثاث، ثم لطفوه بالمساءلة والعدالة، وباغتيالات وإقصاءات منظمة لأهل الكفاءة.
نجد مدناً تُقاس بحاضرها، الذي سيكون متكأً تاريخياً لمستقبلها بعد حين، ومدناً ضاع حاضرها بالخراب، وتأمل مِن تاريخها يسعفها بالنُّهوض، هي البَصْرة، التي حشدت ماضيها وأعطت كلمة افتتاح الدَّورة الرَّائع لرمزها الأسطوري السّندباد البحريّ، محتفيةً بالخليج الذي أخذ اسمها قديماً «خليج البَصْرة».
كان نشوء فرق الكلام والفلسفة واللَّغة من مفاخرها، وهذا ابن المعتز(قُتل: 296هج)، يدافع عن أبي نواس(ت: 195هج: «تأدب بالبَصْرة، وهي يومئذ أكثر بلاد الله علماً وفقهاً وأدباً»(طبقات الشُّعراء). لذا مثلها لا تنهيها الأوجاع سريعاً، لا نقول ذلك عاطفةً أو مجازاً، إنَّما للنخلة جذور ضاربة في العمق. نُسب إلى الشَّاعر الأمويّ مرار العدويّ، وقيل لغيره، في النَّخلات: «ضربنَ العِرقَ في ينبوعِ عينٍ/ طلبنَ معينه حتّى روينا/ بناتُ الدّهرِ لا يخشينَ محلاً/ إذا لم تبق سائمةٌ بقينا»(ابن قُتيبة، الشِّعر والشُّعراء). إنَّه شِعرٌ، ولكنْ «إنَّ مِن الشّعرِ حكمةً»(سُنن التَّرمذيّ). لذا تسمية الملعب بـ«جذع النَّخلة» أملني خيراً.
* كاتب عراقي