في مديح العلماء
في عام 1898 ولد عالم مصري كبير هو الدكتور مصطفى مشرّفة، كان أول القُطر المصري في الشهادتين الابتدائية والإعدادية، والثاني على مصر في الشهادة الثانوية.
أصبح مصطفى مشرفة، أصغر عميد لكلية العلوم جامعة القاهرة، وقبل العمادة كان قد حصل على درجتيْ الدكتوراه: دكتوراه الفلسفة من «كينجز كوليدج»، ودكتوراه العلوم «المرموقة» من جامعة لندن. كان مشرّفة مفكراً بارزاً إلى جانب كونه عالماً كبيراً، وله مؤلفات رائعة في العلم والفكر، وقد كان واحداً من المهتمين بتاريخ العلم عند العرب والمسلمين.
في كتابه «مطالعات علمية» الذي نشره في أثناء الحرب العالمية الثانية عام 1942، روى مشرفّة قصة حضوره «المؤتمر الأول لتاريخ العلوم» في لندن عام 1930، وكان من بين ما روى ذلك النقاش الذي أثاره العلماء بشأن اهتمام المجتمعات بتاريخ السياسة، وعدم اكتراثهم بتاريخ العلوم. عابَ العلماء على المجتمعات إنكار جميل العلم والعلماء، وعدم الحفاوة بتاريخ العلوم، في حين يعطون العناية كلها لتاريخ السياسيين وما خاضوا من حروب ومعاهدات، بل يصل الأمر إلى الانشغال برصد وتحليل أشياء تافهة، إذا ما قيست بتاريخ العلم والاختراع، حيث يؤرخون نزواتهم وعلاقاتهم وكل ما يخصّ دقائق حياتهم.
تساءل العلماء في المؤتمر في غضب: أيُّهما كان أكثر أثراً في تطور البشرية: حروب نابليون بونابرت أم اختراع جيمس وات للآلة البخارية؟.. يقول مصطفى مشرفة: لماذا نعني بتلقين أطفالنا ما حدث لنابليون في حياته من أحداث حربية وسياسية، وحتى حياته الخاصّة.. ولا نلقِّن النشء كلمة واحدة عن تاريخ اختراع الآلة البخارية، وعن حياة ذلك المخترع العظيم جيمس وات؟! كيف نتذكر كل تفاصيل حياة رجل كان يقتل الناس ونعتبره بطلاً.. ونتجاهل رجلاً جلب لهم الخير والسعادة ويسّر لهم سبل التقدُّم؟
قبل سنوات قدّمتُ حلقة من برنامجي التليفزيوني حول قصة حياة مصطفى مشرفة، وتلك العزيمة الهائلة التي جعلت من طفل يتيم مسؤولاً جادّاً عن عائلته، بعد أن تلاشت أملاك والده الثري، في أزمة القطن بدايات القرن العشرين، وكيف أوصلته تلك العزيمة إلى عمادة كلية العلوم التي كانت حصرياً في العلماء الأجانب. قمتُ بعرض الحلقة مرات عدة، ثم جاءني اتصال من المخرجة الكبيرة إنعام محمد علي، وقالت لي إنها تريد عمل مسلسل عن حياة مشرّفة، وبعد المسلسل قالت لي: لقد كان حديثك عن مشرفة السبب في اشتغالي على مسلسل «رجل من هذا الزمان» الذي يروي قصة حياته.
وقتها قلتُ للدكتور أحمد زويل: يجب أن نُقيم حفلاً لتكريم أسرة مسلسل مشرفة، وأن ندعم مثل هذه الأعمال العظيمة. وكان أنْ اتصلتُ ببطل العمل الفنان أحمد شاكر عبد اللطيف الذي أبدع في القيام بدور الدكتور مشرفة، وقد حضرتْ المخرجة الأستاذة إنعام محمد علي، والمؤلف الأستاذ محمد السيد عيد، وكانت كلمات الدكتور زويل في حفل التكريم رائعة ومؤثرة. إن تقديم تاريخ العلم وسِيَر العلماء للأجيال الجديدة، ليس فقط تخليداً لمن يستحقون التكريم، بل تربية وإعداداً لمن يتوجب عليهم الاستعداد لتحديات العالم.. بقوة العلم.
*كاتب مصري