مشاريع حياة لا أكثر ولا أقل
أكثر عبارة بلاغية إنشائية أرفضها بصراحة هي عبارة «مشاريع استشهاد».. وهي عبارة كثيراً ما تنقذف في وجوهنا بعد أن نخسر ضحايا أبرياء في مواجهة الإرهاب المتطرف والأعمى.
وبرأيي أن اعتماد تلك العبارة، وترسيخها في الوجدان الجمعي للناس ما هو إلا تحقيق لما يريده الإرهاب بالضبط. الشهادة، في المفهوم الإسلامي، هي احتساب عند الله جل شأنه، وهو المطلق بقراره المطلق أن يختار ويصطفي من عباده من يكون شهيداً أو لا، وما علينا نحن البشر إلا أن نحتسب من نراهم أبطالاً أو ضحايا أبرياء شهداء عند الله، نحتسبهم ولا نقرر.
تلك فكرة خطيرة ومهمة، تتسلل إلينا من التناسل التاريخي المتواتر للخوارج منذ عبدالرحمن بن ملجم، حتى ذلك الذي ورثته من تيارات التطرف الديني في عصرنا الحديث، وهي خطيرة، لأنها تقضي على فكرة الحياة، وهي جوهر الوجود بمنطوق الإرادة الإلهية بأن الله جاعل في الأرض خليفة، ليعمرها ويبنيها حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
ليس مطلوباً مني ولا منك ولا من أي إنسان أن يضحي بحياته في المبدأ.. إلا دفاعاً عن وجوده فقط، إنما المطلوب أن نوفر سبل الحياة، والعيش الكريم لكل إنسان فينا، إلى أن ينتهي أجله، وكل نفس بما كسبت رهينة.
فكرة «مشاريع الاستشهاد» مصطلح استحدثه «الإخوان» في بدايات تكونهم الدموي، لتكون الفكرة على ما فيها من تخدير للوعي الإنساني جسراً فولاذياً يفضي بصاحبه إلى قبول استبداد المرشد ومن حوله، والذين هم خارج «المشروع الاستشهادي» كله، طلباً للسلطة بأي ثمن.
أنا ضد هذه البلاغة الساذجة، فنحن فعلياً مضطرون للدفاع عن أنفسنا ويفترض أن للدول جيوشاً مدربة ومنظمة ومنضبطة، وهذا لا يعني أن يكون طموحنا الموت أو الاستشهاد.. فهذه فكرة «داعشية» كارهة للحياة.. نحن مع أن نكون مشاريع حياة.. مشاريع مواطنة حرة.. مشاريع دول مدنية مؤسسية، ولكي نكون كل ذلك، ولكي تكون الحياة مشرعة، ومشروعاً ومشروعة لنا ولأبنائنا، علينا أن نكون مشاريع وعي أولاً.. وعي مدجج بالعلم الحقيقي والمعرفة المفيدة.. لا علوم الجهل ومعرفة الشعوذة.
الإنسان هو القيمة العليا، وفي عصرنا الراهن وبعد تطور بشري بلغت ذروتها – ولم تنته بعد- ثورة تكنولوجيا المعلومات والمعرفة التقنية الهائلة، نكتشف أن العالم هو عالم واحد يتسع للجميع بلا استثناء. لدينا أزمات أكبر من معلبات الأيديولوجيا التي كنا رهائن لها، هناك أزمة غذاء وأزمة طاقة وأزمة نقل وتنقل، وموارد لم نوظفها بالشكل الأمثل، وهذا كله يتطلب تعاوناً من الجميع وبين الجميع، وهذه مشاريع حياة تستحق أن نورثها منجزة وقابلة للتوسع لأجيالنا القادمة، بدلاً من توريثهم الكراهية والعنف، وتغليف الدم المسفوح عبثاً بطبقات السكر الوهمي، والإنشائيات التي تشبه الأفيون، وتقتل الوعي الإنساني ببطء. كلّا.. لسنا مشاريع استشهاد.. بل مشاريع حياة.. وتلك حربنا مع كل فكر متطرف دموي إقصائي حتى نكون كذلك.
* كاتب أردني مقيم في بلجيكا.