فاوتشي.. رمز الاستقطاب الأميركي
في 22 أغسطس، أعلن الدكتور أنتوني فاوتشي تقاعده المعلَّق منذ فترة طويلة من المعاهد الوطنية للصحة. وعمل فاوتشي لأكثر من 50 عاماً كموظف حكومي غير معروف في وكالة اتحادية غير شهيرة. وأمضى العامين الأخيرين له في الحكومة كشخصية عامة مثيرة للانقسام. وجاء صعود فاوتشي المفاجئ إلى الشهرة على مستوى البلاد كنتيجة غير مقصودة لكارثة عالمية غير متوقعة. لكنه بعد ذلك، وجد نفسَه، دون مفر ربما، متورطاً في معارك الاستقطاب السياسي الأميركي. فعلى كل حال، يفرق الصراع الحزبي في أميركا بشكل متزايد بين الذين يعتقدون أن الخبراء أصحاب العِلم الراسخ، مثل فاوتشي، يجب أن يمارسوا تأثيراً كبيراً على صنع السياسة وبين الذين يجدون أن هذا التصور غير جذاب أو حتى مخيف.
وحين حققت جلبت جائحة «كوفيد-19» شهرةً مفاجئة لفاوتشي في وقت متأخر من حياته المهنية في الأسابيع الأولى من عام 2020، حصد في البداية احتراماً واسعاً من قبل الأميركيين من كلا التيارين السياسيين. ومع استمرار الجائحة، ظل معظم »الديمقراطيين« مقتنعين ببيانات فاوتشي العامة، التي تحث المواطنين على توخي الحذر في المخالطة الاجتماعية والسعي للحصول على اللقاحات بمجرد توافرها. لكن سرعان ما سئم «الجمهوريون» من القيود المتعلقة بكوفيد-19 وتصاعدت شكوكهم في أن فاوتشي وزملاءَه في مجال الصحة العامة لا يعالجون المرض بشكل فعال وأمين. وبحلول ديسمبر 2021، أجرت مؤسسة جالوب مسحاً على مدى تأييد الجمهور لقيام فاوتشي بعمله ووجدت أن 85% من الديمقراطيين و19% فقط بين الجمهوريين يؤيدونه. وهذا يضاهي الفجوات الحزبية الواسعة في آراء المواطنين تجاه الزعماء السياسيين التقليديين مثل رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي وزعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ تشاك شومر. ومع تفشي الجائحة، تزايد هجوم السياسيين الجمهوريين على فاوتشي. وانتقده السناتور تيد كروز واصفاً إياه بأنه «أخطر بيروقراطي في تاريخ البلاد». وأشار إليه السناتور راند بول بأنه «ديكتاتور كبير» محتمل. أما حاكم فلوريدا، رون ديسانتيس، وهو مرشح جمهوري محتمل في الانتخابات الرئاسية لعام 2024، فقد تحدث عن فاوتشي الشهر الماضي قائلا: «يتعين على شخص ما الإمساك بهذا الجني الصغير والإلقاء به في نهر بوتوماك». لكن الدعم الذي تمتع به فاوتشي وسط المسؤولين الديمقراطيين ظل قوياً. وأشادت نائبة الرئيس كامالا هاريس به في الآونة الأخيرة ووصفته بأنه «موظف حكومي رائع أنقذ أرواحاً بلا حصر حول العالم». ووصفه السناتور الديمقراطي ديك دوربين في وقت سابق من هذا العام بأنه «مثال كلاسيكي للتميز الأميركي».
ويوضح ذلك الشعور في عمقه لدى كلا الجانبين ما اكتسبه فاوتشي من أهمية رمزية في أذهان الأميركيين امتدت إلى ما هو أبعد من الصلاحيات والواجبات الفعلية لمنصبه في الحكومة. فقد استطاع فاوتشي الحصول على الاحترام وسط الديمقراطيين، لكنه حظي في الوقت نفسه بالازدراء وسط الجمهوريين. وهذا يكشف اختلافاً مهماً في تعريف كل حزب لذاته. ووفقاً لرؤية كثير من الديمقراطيين المثالية للسياسة، تتخذ الحكومة قرارات سياسية بتوجيه من الخبراء الموثوق بهم. وينظر الديمقراطيون إلى هؤلاء المتخصصين على أنهم يعتمدون على المعرفة المتميزة والتدريب الأكاديمي لتقييم الأدلة بدقة وتقديم توصيات تستند إلى الواقع.
ولافتة الليبرالية الشعبية تقول: «في هذا المنزل، نعتقد أن العِلم حقيقي»، وهذا دليل على أن الناس داخل هذا المعسكر ينظرون إلى شخصيات مثل فاوتشي باحترام وينصتون لهم. وقدم فاوتشي نفسَه أحياناً على أنه تجسيد للمشروع العلمي، مجادلا في مقابلة أجريت معه في نوفمبر 2021 بأن «العلماء يحاولون قول إن هذه هي الحقيقة، استناداً إلى البيانات. هذا ما نعايشه. وإذا هاجمتني، فأنت تهاجم العلم في الواقع». لكن مع تحول الحزب الجمهوري في اتجاه أكثر شعبويةً، أصبح أنصار الحزب أكثر اقتناعاً بأن تأكيدات الخبراء على سلطة المعرفة والموضوعية تخفي دافعهم الحقيقي، وهو كسب السلطة لأنفسهم وفرض الليبرالية على البلاد!
وامتد تشكك الجمهوريين إلى أبعد من البيروقراطيين الحكوميين الذين طالما استهدفهم اليمين المحافظ الأميركي، ليشمل ذلك التشكك مناصب أخرى للسلطة الفكرية التقليدية، مثل العلماء والمعلمين والصحفيين. وهناك صواب بصفة عامة في تصورات المحافظين بأن هذه المهن يمارسها ليبراليون بشكل غير متناسب ومتزايد. وفاوتشي، كأحد الأشخاص، على سبيل المثال، لا يكاد يواري تعاطفه السياسي، وهذا الاختلاف الحزبي ذاتي الاستدامة على الأرجح فيما يبدو. والآن وقد أصبح الحزب الديمقراطي الموطن السياسي المفضل لمعظم الناخبين الحاصلين على تعليم جامعي، سيحظى الحزب بتشجيع مستمر من الناخبين المتعاطفين مع تبني سياسات يفضلها الخبراء. والسياسيون الجمهوريون الذين ما فتئوا يتلقون معظم دعمهم الانتخابي من الناخبين غير الحاصلين على درجات جامعية، لديهم حوافز قوية بالقدر نفسه لوضع أنفسهم في مواجهة النخب الفكرية والمؤسسات التي يسيطرون عليها. وسيترك الدكتور فاوتشي منصبَه قريباً، لكن الصراع الأكبر الذي أحاط بسنواته الأخيرة في الحكومة لن ينتهي.
ديفيد هوبكنز
أستاذ العلوم السياسية المساعد في بوسطن كوليدج
ينشر بترتيب خاص مه خدمة «واشنطن بوست نيوز سينديكيت»