موسكو وكييف والحرب الإلكترونية
يبدو أن الصراع في أوكرانيا يحتوي على جميع مقومات الحرب الإلكترونية، بل هي حرب إلكترونية بكل امتياز. وموسكو وكييف تلعبان على هوامش أعلى المخاطر الجيوسياسية، ويمتلك كلا البلدين مستوى عالٍ من الخبرة في مجال تكنولوجيا المعلومات واختراقات الشبكات وشلها. ومع ذلك لا يزال هناك الكثير من المشككين في الحروب الإلكترونية، وأن الهجوم الالكتروني باستخدام التقنيات الحديثة وفك الشفرات الخبيثة للهجمات السيبرانية، والتشويش والتعطيل والاعتراض الإلكتروني أصبح يتحكم في القتال الميداني ومدى تقدم كل طرف على الآخر، وتقديم أكثر من ميزة تكتيكية للجنود في ساحة المعركة في ظل صعوبة التوافق والإجماع الدولي حيال المعايير التي يجب وضعها في العلاقات الدولية، وذلك للتحكم في ممارسات الاستخدامات التقنية والسيبرانية في وقت السلم والحرب.
يعد الربط والتبادلية الخدماتية والشبكية والتشغيل الإلكتروني لجميع الخدمات الحيوية في المجتمعات، وانتشار التقنيات الرقمية المتزايد في كل مكان أي أن كل تلك الشبكات من الممكن أن تستخدم كسلاح، والصراع الروسي الأوكراني القائم هو أول حرب إلكترونية واسعة النطاق في العالم، وبدأت العملية قبل سنة ولم تكن حرباً مفاجئة بل كان لها مقدماتها الإلكترونية والتي لم تكن تعد من مؤشرات الحرب التقليدية، وبالتالي سوء تمركز في قراءات واستشراف مستقبل الحروب للمخططين الاستراتيجيين في العالم أجمع.
يقدم البعد الإلكتروني للأزمة الروسية الأوكرانية العديد من الدروس، ويلقي الضوء على ما إذا كانت الحرب الإلكترونية لا تزال أقرب إلى الخيال العلمي منها إلى الواقع أو العكس، وهل استخدمت تلك الهجمات الإلكترونية في استراتيجية أوسع لحرب المعلومات؟ وهي تشمل الدعاية الرقمية وحملات رفض الخدمة (DoS) وتشويه المواقع الإلكترونية، وتسريب المعلومات من قبل مجموعات القرصنة، والبرامج الضارة للتجسس السيبراني المتطورة وشل شبكات البنى التحتية الحيوية المدنية أو العسكرية، فهل هذا يعني أن روسيا التي يعتبرها الكثيرون واحدة من القوى السيبرانية الرائدة في العالم تمارس وتتحلى بضبط النفس طواعيةً على أعلى الدرجات؟ أم أن ذلك ضمن خطة الصراع الأكبر لروسيا وحلفائها وفق االسيناريوهات المحتملة التي يمكن أن نرى فيها تصعيداً لهذا الصراع في الفضاء السيبراني؟
إن الحروب المعاصرة تحتوي على عمليات إلكترونية واسعة النطاق وتهدف إلى التوازن بين الدفاع والهجوم في الفضاء الإلكتروني. وما نراه اليوم في الصراع الروسي- الأوكراني، يتمثل في قوة وجودة العمليات السيبرانية الهجومية، يقابلها قوة وصمود الدفاعات. ولهذا السبب نرى محدودية تأثير الجهود السيبرانية الروسية مقابل أميركا وحلفائها في أوروبا، والتي تدير بدورها عمليات الدافع السيبراني عن أوكرانيا دون أن تنزل جنودها في الميدان. لكن من المهم عدم المراهنة على ما تخفيه جعبة الجيش الروسي الإلكتروني من مفاجأت وتقنيات تعد مستقبلية لأغلب دول العالم، وإمكانية تسليح التقنيات الرقمية كأدوات للعدوان الأشرس القادم.
فقبل شهر واحد من بدء التدخل الروسي تعرضت أوكرانيا لهجوم إلكتروني شديد هدف إلى إضعاف الهياكل الحكومية، وتمهيد الطريق للهجوم العسكري واستهداف البنية التحتية الحيوية إلى جانب البيانات الخاصة، في محاولة لتقويض قدرة الدفاع عن النفس وفق سيناريو مثالي كان من المفترض أن تكون نتيجته تدخّل أشبه بنزهة للجيش الروسي لإنجاز المهمة الكلية في أسابيع معدودة، وهو ما يبين مدى أهمية التقدير الاستراتيجي العميق لغموض بيئة الصراعات الدولية. ولم تعد الحروب بين دولتين هي حروب غير إقليمية أو حتى عالمية من خلال أوجه وأبعاد مختلفة ومتباينة مع بروز تنسيق العمليات السيبرانية مع أشكال الحرب الأكثر تقليدية، ودور القطاع الخاص والجريمة المنظمة وحتى الخارجين عن القانون من مجرمي المجال السيبراني، حيث أصبحت هذه العناصر جزءاً من الحروب والجيوش الحديثة، وأن تصبح جندياً لم يعد بالضرورة أن تكون جزءاً من جيش أو أن تتلقى تدريباً عسكرياً.
* كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات