تفتيش الـ«إف بي آي».. ليس جديداً
لو كنتَ من متابعي وسائل الإعلام اليمينية في الولايات المتحدة، لخلت أن القيامة قامت. فهذا مقدّم البرامج على قناة «فوكس نيوز» مارك ليفن يقول إن عملية التفتيش التي نفذها مكتب التحقيقات الفيدرالي الـ«إف بي آي» مساء الاثنين في مقر إقامة الرئيس السابق دونالد ترامب مار-أ-لاغو في فلوريدا تُعد «أسوء هجوم على هذه الجمهورية في التاريخ الحديث». هذا التصريح الذي ينم عن كثير من قصر النظر كان متبوعاً بسلسلة من المشرّعين الأميركيين الذين شددوا على أنه إذا كان ترامب ليس في مأمن من التحقيق، فما بالك بالأميركيين العاديين.
مكتب ال«إف بي آي» أجرى عملية التفتيش يوم الاثنين الماضي بموجب مذكرة تفتيش وقّعها قاض فيدرالي، وذلك على ما يبدو في إطار تحقيق – وهو شيء نادر في أوساط الرؤساء الأميركيين السابقين ولكنه شائع نسبيا في جزء كبير من العالم – في إمكانية سوء استخدام وثائق سرية للبيت الأبيض، بعضها يحمل خاتم فائق السرية. قد يكون ترامب أخذها إلى إقامته الخاصة في نادي الغولف، بدلا من إرسالها إلى «الأرشيف الوطني»، مثلما ينص على ذلك «قانون السجلات الرئاسية». ورغم أن ترامب شبّه، في بيان، التفتيش بفضيحة «ووترجيت»، إلا أنه ومحاميه لم يكشفوا حتى الآن عن تفاصيل المذكرة التي تلقوها.
لا يوجد أي دليل على أن خصوم ترامب السياسيين، ناهيك عن الرئيس بايدن، طالبوا بالتفتيش. ومثلما ذكر زملائي، فإن ترامب، الذي خضع لمحاكمة العزل مرتين ولديه تاريخ طويل من المشاكل القانونية، كان موضوع سلسلة طويلة من التحقيقات في سلوكه السياسي والشخصي. كما أنه أبدى، في بعض الأحيان، ازدراء صريحا بحكم القانون حين كان في المنصب – حيث صبّ غضبه ذات مرة على جنرالات أميركيين لأنهم لم يبدأوا إطلاق النار على المحتجين في شوارع واشنطن، وفق كتاب قيد الطباعة للصحافيين بيتر بيكر وسوزان غلاسر.
غير أن «الجمهوريين» التفوا حول الرئيس السابق ودعموه. فقد انتقد حاكم فلوريدا «الجمهوري» رون ديسانتيس بشدة «استخدام الوكالات الفدرالية كسلاح» وطرق «النظام» المخادعة، ملمحاً بذلك إلى شبح «الدولة العميقة»، الذي كثيرا ما كان يستخدمه ترامب حينما كان في البيت الأبيض. وقال «ديسانتيس» إن هذا ما يحدث في إحدى «جمهوريات الموز»، هو الذي يتهمه منتقدوه أيضا باستخدام مؤسسات الولاية في خوض حرب ثقافية غير ليبرالية.
المشرّعون «الجمهوريون» يبدون غير منزعجين من سخرية- حتى لا نقول نفاقاً- تمثيل الفصيل الذي دعا صراحة إلى محاكمة المناوئين الرئيسيين لحملته الرئاسية مؤخرا فقط. وفقط الآن بعد أن أخذ ترامب يشعر بالضغط بات لديهم سبب للسخط والغضب. إذ كتب السيناتور ماركو روبيو، «الجمهوري» عن ولاية فلوريدا، في تغريدة على تويتر يقول: «إن استخدام السلطة الحكومية لمحاكمة الخصوم السياسيين شيءٌ سبق أن رأيناه مرات كثيرة في ديكتاتوريات العالم الثالث»، مضيفا «ولكن لم يسبق أن رأيناه أبدا في أميركا».
والواقع أن تاريخ السلطة التنفيذية في الولايات المتحدة حافل بالمخططات التآمرية وحالات الغش والفساد. صحيح أن قلة قليلة جدا من الرؤساء الأميركيين حوسبت بسبب أعمال إجرامية مفترضة – الرئيس السابق ريتشارد نيكسون، على سبيل المثال، تلقى عفوا كاملا بعد أسابيع قليلة على مغادرته المنصب. ولكن رد الفعل «الجمهوري» يتجاهل الأمثلة المضادة البديهية، ومن ذلك أنه من العادي والطبيعي أن تحقق «الديمقراطيات» الصحية مع زعماء سابقين وأن تدينهم وأن تسجنهم أحياناً. ولهذا، يُعد المبدأ الذي يقول إن لا أحد فوق القانون حجر زاوية بالنسبة لكل الديمقراطيات.
قبل عقد من الآن، وبعيد انتهاء حصانته الرئاسية، خضع منزل الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي لمداهمة من قبل السلطات المحلية. محامو ساركوزي نددوا بالخطوة باعتبارها «عقيمة» وقتئذ. ولكنها كانت جزءا من تحقيق طويل أخذ طريقه عبر النظام القضائي الفرنسي وانتهى بإدانة ساركوزي العام الماضي بالفساد واستغلال النفوذ. وقد كانت هناك سابقة قريبة. ففي 2011، أصدرت محكمة فرنسية حكما بإدانة سلف ساركوزي، جاك شيراك، بتهمة اختلاس أموال عامة وصدر في حقه حكم بالسجن مع وقف التنفيذ.
وكما شرح زميلي ريك نوك قبل بضع سنوات، فإن الحكومات الديمقراطية عبر العالم تتمتع بعدة ضمانات لمنع تحقيقات ذات دوافع سياسية مع قياداتها المنتخَبة. ويشمل ذلك الحماية التي توفّر للرؤساء الأميركيين، مثل «الحصانة المطلقة» التي أشار إليها ترامب وسط معاركه القانونية العديدة.
وتوفّر معظم الديمقراطيات الأوروبية لرؤساء حكوماتها أو دولها حصانة محددة بشكل أكبر. ولكن ذلك لا يعني أن مجتمعاتهم معرّضة لتجاوزات نخب سياسية تحركها أهداف ذاتية. وعلى سبيل المثال، فإن الزعيم الإيطالي السابق سيلفيو برلسكوني، رجل الأعمال الذي تحول إلى رئيس وزراء سابق، مر من سنوات من المحاكمات القضائية وصدرت في حقه أحكام بالإدانة، بالغش الضريبي ودفع المال مقابل الجنس، في قضيتين منفصلتين. ولكنه تلقى عقوبات خفيفة، وما زال يهيمن على حزب سياسي نافذ من «يمين الوسط»، ويمكن أن يكون لاعبا رئيسيا في حكومة يمينية مقبلة.
في كثير من الأحيان، تمثّل التحقيقات في انتهاكات مفترضة لرؤساء سابقين اختباراً للديمقراطيات. ففي جنوب افريقيا، نُظر إلى محاكمة الرئيس السابق جاكوب زوما على خلفية تهم فساد على أنها خطوة ضرورية لتعزيز حكم القانون في البلاد. ولكن من جهة أخرى، أصبح التحقيق وإدانة الرئيس السابق لويس إينياسيو دا سيلفا في البرازيل موصوما بالتحيز السياسي. «لولا»، الذي لم يعد في السجن الآن، قد يجد إعادة الاعتبار هذا العام في انتخابات رئاسية تُظهر استطلاعات الرأي تقدمه فيها.
وفي آسيا، تقوم بلدان كانت تنظر إلى الولايات المتحدة بحثاً عن الإلهام والدعم في بناء ديمقراطياتها، بمحاكمة رؤساء سابقين وسجنهم. ففي 2009، أصدرت محكمة تايوانية حكما بالسجن المؤبد في حق الرئيس السابق «تشين شوي بيان» بعد أن أدين وزوجته باختلاس الأموال وتلقي رشى تم تبييضها عبر بنوك في الخارج. العقوبة حوّلت لاحقا إلى 20 عاما، ثم استفاد «تشين» من إفراج طبي مشروط في 2015 شريطة عدم المشاركة في الحياة السياسية مرة أخرى.
وقد تكون كوريا الجنوبية واحدة من أكثر الديمقراطيات استقرارا في آسيا، ولكن يمكن القول إنها في فئة خاصة بها لجهة سجلّها في سجن الرؤساء السابقين. ففي 2018، كان نصف كل الرؤساء الكوريين الجنوبيين السابقين الأحياء في السجن، مثلما لاحظ أحد المعلّقين. ولكن ذلك لم يعد واقع الحال الآن، مع العفو الذي صدر العام الماضي في حق بارك جون هاي والإفراج المؤقت في وقت سابق من هذا الصيف عن «لي ميانغ باك».
كلا الرئيسين أدينا بعدة تهم فساد، ولكن تورطهما ليس مؤشرا على تفشي الفساد في المجتمع الكوري – إذ يبدو أن الكسب غير المشروع يمثّل في الغالب عادة توجد في المستويات العليا من الطبقة السياسية -- ولا على نقاط ضعف ديمقراطية البلاد الراسخة، التي لم تظهر حقيقة إلا في 2002.
بل على العكس، إذ على الرغم من احتضانها لساحة سياسية تتسم بالانقسام والاستقطاب المرير على غرار الولايات المتحدة، إلا أن كوريا الجنوبية تمكنت من الصمود في وجه العواصف بسبب فساد رؤساء سابقين والحفاظ على نظام ديمقراطي سلمي في وقت انتقلت فيه السلطة من اليمين إلى اليسار ثم العكس. ويجدر بالأميركيين الانتباه.
«إن مثالا بارزا للمحاسبة من شأنه بالفعل أن يقوّي الديمقراطية الأميركية، لا أن يُضعفها، وأن يقوّي حكم القانون»، هكذا كتب آرتورو ساروكان، وهو سفير مكسيكي سابق إلى الولايات المتحدة، في تغريدة على تويتر، مضيفا أن مثل هذه المحاسبة «تضمن (أيضا) ألا يكون لدى الولايات المتحدة خطاب مزدوج ومتناقض حينما تسعى لتحقيق هذه القيم في الخارج».
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»