قطاع الخدمات في عالم مأزوم
من بين تداعيات عديدة للأزمة الراهنة للاقتصاد العالمي، تتداعى المشكلات على أداء قطاع الخدمات، سواء في إطاره الدولي أو داخل كل اقتصاد على حدة.
وبينما أسهبت - ولاتزال - الكتابات الاقتصادية في تناول الآثار التي تركتها جائحة كورونا والحرب الروسية-الأوكرانية على أنشطة الاستثمار والإنتاج والتجارة السلعية، فإن تناول آثار تلك الأزمات على أداء قطاع الخدمات لم ينل حظه من التحليل والتفسير والتنبؤ والاستشراف. ويدعو ذلك للبحث في أثر هذه الأزمات على قطاع الخدمات بمكوناته المختلفة وأُطره المتداخلة.
وقطاع الخدمات الدولية يتكون من عدة أنشطة بالغة الأهمية وشديدة التأثير في مجريات الاقتصاد الدولي. فالتجارة الدولية والنقل واللوجيستيات، والخدمات المالية والبنكية والنقدية، وخدمات الاتصالات الدولية، وخدمات السياحة والسفر، تمثل كلها أعمدة العولمة الاقتصادية، وبدونها تتقطع أوصال النظام الاقتصادي الدولي وتدخل دول العالم، فرادى وجماعات، في دوامات من الركود والكساد. كما يلعب قطاع الخدمات داخل أي اقتصاد دوراً مناظراً لدوره العالمي.
إذ يقوم هذا القطاع في جسد الاقتصاد الوطني مقام الجسور التي تربط الأنشطة بعضها ببعض. وإزاء هذه المكانة التي يحتلها قطاع الخدمات، يأتي السؤال: كيف تأثرت أنشطته بالأزمات العالمية الراهنة؟ على الصعيد الدولي، ورغم أن العالم قد قطع شوطاً واضحاً في محاولات التعافي من آثار جائحة كورونا، فمازالت قوائم الانتظار في النقل والشحن الدولي أعلى من المعدلات الطبيعية.
وزاد من حدة أزمة قطاع النقل الدولي التوقف الذي أصاب تجارة الحبوب والمنتجات الزراعية في البحر الأسود. إذ تنتج وتصدر روسيا وأوكرانيا، المنهكتان بسبب الحرب والعقوبات، نحو 30% من تجارة القمح العالمية. ولقد فقد قطاع النقل العالمي طلباً على خدماته بنحو 4.5 مليون طن شهرياً كانت تصدرها أوكرانيا وحدها للأسواق العالمية بوسائط النقل البحري. وفي ذات السياق، وكرد فعل طبيعي للعقوبات الدولية على روسيا، تعاني الآن أنشطة الخدمات المالية والنقدية الدولية اختناقات عديدة.
ويظهر ذلك جلياً في المشكلات التي تواجهها خدمات الربط بين البنوك الدولية «سويفت» بعد إخراج البنوك الروسية قسراً من هذه المنظومة الدولية. ثم إن مشكلات مالية كهذه كفيلة بتحفيز الجرائم المالية التي يعانيها قطاع الخدمات الدولي، وخصوصاً تفشي ظاهرة «غسل الأموال».
وبالنظر في واقع قطاع الخدمات على الصعُد الوطنية، فإن معاناته قد زادت مع دخول قطاع الخدمات الدولية في مشكلاته الآنفة الذكر. إذ يمكن اعتبار قطاع الخدمات المحلي مرآة تنعكس عليها آثار مشكلات أنشطة الخدمات الدولية. فعندما تفاقمت مشكلات سلاسل الإمداد الدولية مثلاً، تدهورت أنشطة النقل وتجارة الجملة والتجزئة المحلية وتراجعت ربحية قطاع الخدمات السياحية.
وزد على ذلك أن مقدمي الخدمات المحلية، وخصوصاً بالدول الآخذة في النمو، يعانون حالياً تراخياً ملموساً في الطلب نتيجة ارتفاع تكاليف الإنتاج والتشغيل، فضلاً عن حساسيتهم الشديدة تجاه التضخم المستورد. وصفوة القول، إذن، أن دعم قطاع الخدمات بات ضرورة مُلحة لعودة الاستقرار للاقتصاد العالمي برمته.
مركز تريندز للبحوث والاستشارات