العمران والتخلف من منظور جديد
يحسب للمفكر السياسي المصري مأمون فندي في كتابه الأخير «العمران والسياسة: منظور عمراني لتفسير التخلف» (القاهرة 2022) كونه أعاد الاعتبار لمفهوم العمران الخلدوني الذي خرج من الدراسات الاجتماعية العربية منذ عقود طويلة.
الكتاب في عمومه محاولة جادة لتفسير أزمة المجتمع العربي المعاصر من منظور الهياكل والبنيات العمرانية، التي لا تعني بالنسبة له مجرد الأبنية أو المنشآت السكنية أو التاريخية، بل تشمل كل الجوانب ذات الصلة بالمجال في أبعاده المكانية والزمنية والرمزية التي تتوقف عليها النظم الاجتماعية والمدنية ومسالك العيش المشترك.
ومن هنا يوظف المؤلفُ عُدةً نظريةً كثيفةً ومعمقةً ترجع إلى عناصر فلسفية وانتروبولوجية وسوسيوسياسية تلقي أضواء كاشفةً على أزمات العمران في المجتمع العربي الراهن. ومن الطريف في هذا الباب تفسير معضلات التحول الاجتماعي ورهانات السلطة والتقدم التقني والاقتصادي من منظور السياسات والخطط العمرانية ضمن دراسة مقارنة دقيقة مع التجارب العمرانية في كبريات المدن العالمية.
ليس من همي تلخيص أطروحات هذا الكتاب المهم، الذي يسد ثغرةً كبرى في الدراسات الاجتماعية العربية، في ما وراء الكتابات المتخصصة حول الجغرافيات الحضرية المنتشرة على نطاق واسع، والتي لا تغوص عادةً في هذه الإشكالات الجوهرية. لقد سعى ابن خلدون في نهاية القرن الثامن الهجري إلى تأسيس علم للعمران من منطلق طبيعي تجريبي يستوعب تجربة الاجتماع الإسلامي في إطار جدلية العصبية والملك وإشكالها المحوري المتعلّق بتشكّل الدولة على أساس الشرعية الرمزية للملة بتجاوز التناقضات الأفقية للهياكل القبلية المعيقة للحكم المركزي.
والعمران هنا مفهوم وصفي موضوعي يفسر حركية التاريخ العربي الإسلامي في دورته المغلقة التي ترتكز على العصبية مادةً للبناء السياسي ولتحلله معاً. لقد استندت نظريات «التخلف العربي» (من ساطع الحصري إلى هشام شرابي ومحمد جابر الأنصاري) إلى ابن خلدون في ربط أزمات الاجتماع السياسي العربي قديماً وحديثاً بطغيان وهيمنة البنيات العصبية على المتخيل المجتمعي وتهديدها الفعلي الدائم لمراكز المدنية والحضارة المطوَّقة بالصحاري العشائرية والبدوية.
بل إن العديد من الدراسات الاجتماعية والسياسية فسّرت تراجع الديناميكيات التحديثية والليبرالية في المجتمعات العربية المعاصرة بما سمته «ترييف المدن العربية»، أي زحف الريف إلى المدينة وسيطرة عقلياته عليها وتحكم الطبقات الريفية، التي لجأ أبناؤها في الغالب إلى الجيش، على مراكز القرار والحكم (نظرية البداوة المقنَّعة لدى جابر الأنصاري).
في مقابل نقد ظاهرة «ترييف المدن العربية»، برز اهتمام واسع بفكرة «المجتمع المدني» في إطار الإشكاليات ذات الصلة بالتحول الديمقراطي وقوى التغيير الداعمة له. ومع أن مفهوم «المدنية» يختلف نوعياً عن الاعتبارات العمرانية التي تحيل إليها مقولة «المدينة»، إلا أن الفكر الاجتماعي العربي ربط بقوة بين تَشكُّل قوى طبقية وحقوقية حديثة مستقلة عن الهياكل القبلية البدوية وتطور حركة العمران المدني وما واكبها من تراجع وانحسار قيم وثقافة البداوة.
لقد عالج فندي في كتابه المذكور مساحات الاحتجاج والتمرد في المدينة العربية الحالية، وذلك أحد أوجه العمران السياسي والاجتماعي الهامة، ويمكن أن نضيف إليها بعدان آخران أساسيان نلاحظهما في الكثير من الساحات العربية. البعد الأول هو المساحات الهامشية الخارجة عن سيادة الدولة التي تنمو في كثير من كبريات المدن العربية، ويتعلق الأمر بمناطق خالية من الخدمات العمومية، تشكل بؤرةً للعنف والحروب الأهلية، وقد أصبح بعضها تحت تحكم الميليشيات المتطرفة ومجموعات الجريمة المنظمة.
أما البعد الثاني فهو المساحات الافتراضية المندمجة في نسق العمران المعولم الذي خلق جغرافيةً مدنيةً جديدةً أطلق عليها الفيلسوف والجغرافي الفرنسي بول فيريليو عبارة «مدينة اللامكان» omnipolis التي توجد في كل موقع ولا توجد في أي موطن محدد.
الأمر هنا يتعلق بالآثار المترتبة على التقنيات الاتصالية الرقمية واقتصاد العيش المرتبط بها، حيث انحسرت كلياً معادلة الزمان والمكان التي كانت تؤطِّر السياسات العمرانية التقليدية. في الحالات الثلاث (مكانية الاحتجاج، ومكانية الانفصال، ومكانية الاختراق) تتغير البنيات العمرانية في العمق، وتتقلب نوعياً ضوابط ومحددات السياسات الجغرافية والسكانية العمومية، في مرحلة تشهد ما سماه بعض الباحثين «أخطر وأسرع موجات التنقل البشري عبر التاريخ» بواسطة موجات اللجوء والهجرة بأنواعها المختلفة. فكيف يمكن من هذه الزاوية الجديدة إعادة النظر في سؤال التقدم الاجتماعي والتاريخي الذي هو العنوان الآخر لإشكالية العمران والتخلف؟
*أكاديمي موريتاني