الركود التضخمي.. سيناريو السبعينيات
حذر البنك الدولي يوم الثلاثاء (7 يونيو) من أن الاقتصاد العالمي قد يتجه لسنوات من النمو الضعيف وارتفاع الأسعار، في مزيج مدمر يختبر استقرار عشرات الدول التي مازالت تجد صعوبة في التعافي من الجائحة. ولم يواجه الاقتصاد العالمي مثل هذا التحدي منذ سبعينيات القرن الماضي حين أدت صدمات نفطية متتالية إلى تقلص النمو وارتفاع الأسعار وظهور ما عُرف باسم «الركود التضخمي».
وخفض البنك توقعاته للنمو العالمي السنوي إلى 2.9% نزولاً من تقدير شهر يناير الذي بلغ 4.1%. وأعلن البنك أن «النمو الضعيف سيتسمر على الأرجح طوال العقد بسبب ضعف الاستثمار في معظم أنحاء العالم». وأدت تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا إلى تفاقم بطء النمو العالمي مع ارتفاع أسعار مجموعة من السلع الأولية، مما أجج التضخم.
وسيبلغ النمو العالمي هذا العام نحو نصف معدل السنوي للعام الماضي، ويتوقع أن يحقق تحسناً طفيفاً في عامي 2023 و2024. وقد يزداد الوضع سوءاً إذا أدت حرب أوكرانيا إلى تمزقات في التجارة العالمية والشبكات المالية أو أدى ارتفاع أسعار المواد الغذائية إلى اضطرابات اجتماعية في البلدان المستوردة. ويرى ديفيد مالباس، رئيس البنك الدولي، أن «احتمالات الركود التضخمي كبيرة ويصحبها عواقب بمقدورها زعزعة استقرار الاقتصادات منخفضة ومتوسطة الدخل. هناك احتمال قوي لحدوث سوء التغذية وتفاقم الجوع وحتى المجاعة في بعض المناطق».
وأضاف أنه إذا تحققت أسوأ النتائج، فقد ينخفض النمو العالمي خلال العامين المقبلين «قرب صفر». وفي العام الثالث من الجائحة، تضرر الاقتصاد العالمي هذا العام مما وصفه البنك الدولي بـ «الأزمات المتداخلة» المتمثلة في تداعيات الحرب في أوكرانيا، وتكرار عمليات الإغلاق بسبب فيروس كورونا مما أثر على المصانع الصينية، وأعلى معدلات التضخم منذ عقود. والركود في أوروبا هو احتمال حقيقي، مع سعي القارة جاهدة لاستيعاب ما يقرب من سبعة ملايين لاجئ أوكراني وتجاوز الاضطرابات في أسواق الطاقة.
وانقطاع صادرات الحبوب عبر البحر الأسود يضر ببلدان مثل لبنان ومصر والصومال. وذكر البنك الدولي أنه يتعين على صانعي السياسات التحرك بسرعة للتخفيف من عواقب الحرب في أوكرانيا، ومساعدة الدول على دفع ثمن الغذاء والوقود، والإسراع بالإعفاء الموعود من الديون، مع تجنب التحكم بالأسعار وحظر الصادرات. ويؤكد مالباس أن الاقتصاد العالمي تعرقله عدم كفاية القدرة الإنتاجية للسلع الرئيسية. ومضى يقول: «من المهم للغاية زيادة العرض بشكل كبير لمحاولة التغلب حقاً على التضخم بشكل مباشر من خلال زيادة الإنتاج. ولسوء الحظ، لا توجد مؤشرات كثيرة على ذلك حتى الآن».
وذكر البنك أن الغزو الروسي لأوكرانيا عطل أسواق الطاقة العالمية وهدد أوروبا بالركود وأرهق ميزانيات البلدان التي تستورد كميات كبيرة من النفط والغاز الطبيعي والفحم والأسمدة. وذكر مالباس أنه للمساعدة في تعويض ارتفاع الأسعار، هناك حاجة ماسة إلى استثمارات في إنتاج طاقة إضافية، خاصة لمعالجة النقص في إمدادات الغاز الطبيعي المستخدم في إنتاج الكهرباء والأسمدة. ومضى مالباس يقول: «الإعلان عن زيادات كبيرة في الإنتاج ستكون ضرورية لاستعادة النمو غير التضخمي».
وذكر البنك أن الركود التضخمي العالمي قد تكون آثاره أوخم في العالم النامي، حيث ما زال دخل الفرد هناك هذا العام أقل 5% تقريباً عن مستويات ما قبل الجائحة. ويزيد التضخم المستمر احتمالات قيام الاحتياطي الاتحادي والبنوك المركزية الأخرى بزيادة أسعار الفائدة بشدة لتهدئة الطلب، كما حدث في أواخر سبعينيات القرن الماضي.
وذكر البنك أن هذا قد يؤدي إلى ركود عالمي أشد قسوة وأزمات مالية في بعض الأسواق الناشئة. ففي سبعينيات القرن الماضي، اقترضت دول أميركا اللاتينية، على وجه الخصوص، بكثافة من البنوك الأميركية، مستفيدة من معدلات الفائدة المنخفضة المعدلة حسب التضخم. لكن عندما تحولت البنوك المركزية في الولايات المتحدة وأوروبا إلى مكافحة التضخم ورفع كلفة الاقتراض، توقفت 16 دولة في أميركا اللاتينية عن سداد ديونها، وفقاً لبيانات مجلس الاحتياطي الاتحادي. وقطعت البنوك الكبرى التمويل لأنها سعت إلى التفاوض على خطط سداد جديدة، مما أغرق المنطقة في «عقد ضائع» من النمو الهزيل.
وتدين البلدان النامية كمجموعة حالياً بمبلغ قياسي للبنوك الأجنبية والمؤسسات المالية الأخرى. وربع عبء الديون للدول الفقيرة نمطياً يحمل الآن معدلات فائدة متغيرة، ارتفاعاً من 11% عام 2010. وذكر البنك أنه مع قيام البنوك المركزية التي تكافح التضخم بتشديد شروط الائتمان، سترتفع كلفة السداد للدول المقترضة المتعطشة للمال. وتخلفت سريلانكا الشهر الماضي عن سداد ديونها الخارجية للمرة الأولى، وتوقع مالباس أن تعجز دول أخرى مثقلة بالديون عن السداد أيضاً.
لكن الاقتصادات الكبرى في العالم لن تنجو من الضرر. فخبراء الاقتصاد في البنك يتوقعون أن تحقق الولايات المتحدة نمواً هذا العام بنسبة 2.5% فقط، بانخفاض عن 3.7% الذي توقعوه في يناير. وقد يتضرر المستثمرون أيضاً من تكرار الركود التضخمي على غرار سبعينيات القرن الماضي. ومؤشر الأسهم ستاندرد آند بورز 500 الذي انخفض بالفعل أكثر من 13% هذا العام، قد ينخفض 20% أخرى أو أكثر، وفقاً لما جاء في مذكرة للعملاء في الآونة الأخيرة من بنك أوف أميركا. وخرج العالم من انكماش الجائحة بقيادة الولايات المتحدة بأسرع نمو منذ عام 1973، محققاً نمواً بنسبة 5.7%.
وكان من المتوقع أن يعاني الاقتصاد العالمي هذا العام نتيجة تكيفه مع خسارة الإنفاق الحكومي في حقبة الجائحة وأسعار الفائدة المنخفضة للغاية. غير أن الهجوم الروسي على أوكرانيا واستمرار ظهور فيروس كورونا جعل الوضع أشد وطأة. وقفز سعر برميل نفط خام برنت إلى نحو 120 دولاراً بارتفاع نحو 50% هذا العام.
وشهد القمح ارتفاعاً مماثلاً، مما دفع البنك الدولي إلى الدعوة إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لتخفيف «نقص الغذاء في جميع أنحاء العالم». والجدير بالذكر أنه في سبعينيات القرن الماضي، سقط الاقتصاد العالمي في ركود طويل الأمد بعد أن حقق نمواً قوياً خلال معظم العقد السابق.
وبحلول عام 1982، كان النمو العالمي قريباً من صفر مع ارتفاع التضخم العالمي إلى أكثر من 10%، وفقاً للبنك الدولي. لكن البنك يرى أن الاقتصاد العالمي اليوم يختلف عما كان عليه في السبعينيات. فارتفاع أسعار السلع يعد ضئيلاً مقارنة بما حدث منذ ما يقرب من خمسة عقود. وأسعار النفط ارتفعت أربعة أمثال بين عامي 1973 و1974 ثم زادت مثلين مرة أخرى بين عامي 1979 و1980 مع الإطاحة بشاه إيران. وذكر البنك أن أسعار النفط اليوم أقل بمقدار الثلث عن مستواها عام 1980 بعد تعديلها وفقاً للتضخم.
*محلل اقتصادي أميركي.
ينشر بترتب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»