ألا يكترثون لقتل الأطفال؟!
في أعقاب إطلاق النار في يوفالدي الذي أودى بحياة 19 طفلا واثنين من البالغين، رأينا الآباء الحزانى وتوابيت الأطفال. ورأينا أشخاصاً ناكسي الرؤوس حزناً. لكن بلادنا ما زالت لا تبالي، وربما تحتاج لرؤية الجثث، على الرغم من مجافاة هذا لرقة المشاعر واللياقة والرحمة في مواجهة حزن لا يوصف وبلا قرار. فقد تمثل رؤية الجثث وما فعلته بندقيةٌ من طراز «إي آر 15» في أجساد الأطفال، حافزاً مروعاً للتحرك. وربما تصبح هذه الغلظة غير المستساغة كافية لتقشعر أبدان المتمتعين بالسلطة حتى يقروا تشريعات تقيد بيع الأسلحة، وترفع السن القانونيةَ لشرائها، وتسد ثغرات التحقق من سجل المشتري، وتجعلهم يدركون أن الأسلحة أصبحت إدماناً ثقافياً مميتاً يتطلب تدخلا واسع النطاق.
كيف يستطيع شخص، في هوة حزن عميق، تقديم فلذة كبده كرمز وعامل محفز؟! هذا ما فعلته «مامي تيل» بعد إعدام ابنها إيميت، البالغ من العمر 14 عاماً، خارج نطاق القانون، في ميسيسيبي خلال الأيام الأولى من حركة الحقوق المدنية. فحين أعيد إلى شيكاغو لتشييع جثمانه، تركت تيل نعشه مفتوحاً ليشاهد مَن يريد وجهَه المتورم والمشوه. وسمحت بتصوير جسده ونشر صوره في مجلة «جيت» حتى يتمكن العالَمُ من رؤية هذه الوحشية المنهجية التي يعرفها كثيرون من مواطنيها لكنهم لا يبالون بها.
وعقب عمليات إطلاق النار العشوائية في يوفالدي وبوفالو، يتناسى كثير من الأميركيين ما حدث ويزيحونه عن ذاكرتهم. فهل نحن بحاجة إلى مشهد جسد مشوه لدرجة يتعذر معها التعرف عليه، لإجبارنا على الانتباه واتخاذ إجراءات؟ وحتى هذا المشهد هل سيحركنا؟ إن إمكانية إنقاذنا في هذه الحالة إذن ليست مؤكدة.
لقد حضر السناتور الجمهوري تيد كروز الصلاة في يوفالدي وقدّم التعازي للعائلات الثكلى. لكن في مقابلة مع مراسل «سكاي نيوز»، راوغ في الإجابة حين تطرق الحديث إلى قوانين الأسلحة. وأمضى حاكم ولاية تكساس، جريج أبوت، الجزءَ الأكبر من مؤتمره الصحفي الذي دام ساعة كاملةً، في الحديث بالتفصيل عن الوسائل المختلفة التي تدعم بها شبكة الأمان الاجتماعي للولاية المتضررين من حادث إطلاق النار في يوفالدي. وبعد أن أشار أبوت إلى كل ما يفعله لمساعدة سكان يوفالدي في معاناتهم، تملص من أسئلة حول تشريع أقره العام الماضي خفف من لوائح امتلاك الأسلحة، مشيراً إلى أن التشريع لا علاقة له مطلقاً بإطلاق النار في مدرسة روب الابتدائية، لأن مطلق النار استخدم سلاحا من طراز «إي آر 15» والتشريع الذي وقَّع عليه هو كان يركز على المسدسات. لكن الحقيقة أن البنادق والمسدسات والأسلحة نصف الآلية ترتبط بعضها ببعض.
وقوانيننا ترسخ ثقافةً يتفوّق فيها عدد الأسلحة على عدد الأشخاص، وتدعم أقلية مهووسة بالسلاح على استعداد لتجاهل موت أحباء الآخرين. وإجابة أبوت تتمثل في أنه إذا سقط عدد كبير من الجثث في وقت واحد، فإنه سيضمن هو وغيره من قيادات الولاية توافر «متجر شامل» يوفر للناجين الحزانى جميع احتياجاتهم بعد الوفاة. كما لو أن هذه الكارثة التي من صنع الإنسان يمكن تنظيف آثارها كما لو أنها مجرد إعصار موسمي مر عابراً!
لقد جرت تهيئتُنا لنعتقد أن ما حدث في يوفالدي كان فشلا ذريعاً في تطبيق القانون وليس فشلا ثقافياً هائلا. فلم تحاول الشرطة، لأكثر من ساعة، اقتحام حجرة الدراسة حيث كان مطلق النار يقتل الأطفال والمعلمين. ولم يدخل الضباط الأوائل الذين تواجدوا في الموقع فوراً بعد المسلح، لأن الأطفال اتصلوا برقم 911 طلباً للنجدة. ولم نشهد حبكة بطولة سينمائية يَقتل فيها شرطيٌ وحيدٌ الشريرَ وينقذ الموقفَ. وأطلقت سلطاتُ إنفاذ القانون النارَ في نهاية المطاف على سلفادور راموس البالغ من العمر 18 عاماً، لكن بعد أن ترك جحيم الموت خلفه.
وهناك أسئلة كثيرة لم تتم الإجابة عليها. لكننا نعرف أن راموس قتل ضحاياه ببندقية من طراز «إي آر 15» تمكن من شرائها بشكل قانوني بعد عيد ميلاده الثامن عشر. ووصف أكثرُ من خبير الضررَ الرهيب الذي قد يلحقه مثل هذا السلاح القتالي بجسم الإنسان. فقد تدخل طلقة من مسدس وتخرج من الجذع بشكل نظيف وقد تتلف أعضاء حيوية. لكن رصاص بندقية «إي آر 15» يسبب ما يشبه الانفجار داخل الجسم ويحدث ضرراً فادحاً. وقد بلغ تشوه قتلى حادثة يوفالدي أن طُلب من عائلاتهم تقديم عينات من الحمض النووي للتعرف عليهم. والأطفال الذين نجوا رأوا هذا الضرر. ورآه أيضاً أول من ذهبوا إلى المكان بعد الحادث. ورآه المتسوقون في متجر البقالة في بوفالو، لأن مطلق النار استخدم طراز البندقية نفسه. ورأى الضررَ أيضاً الناجون من باركلاند وأولاندوا بولاية فلوريدا، وفي نيوتاون بولاية كونيتيكت.
لقد رأوا الجثث التي تغيرت معالمها إلى الأبد. لكننا لم نتغير. على مر السنين، رأى الجمهور مخلّفات العنف مثل بقع الدم وشرائط الشرطة التي تحدد موقع الجريمة. ورأينا الدموع وباقات الزهور في المقابر. ورأينا الرئيس باراك أوباما يبكي بعد إطلاق النار على مدرسة في نيوتاون. وفي الآونة الأخيرة، رأينا السناتور الديمقراطي كريس مورفي، وهو غاضب ومحبط، مناشداً زملاءَه الجمهوريين من أجل إقرار تشريع يستهدف السيطرةَ على السلاح. وفي الأسابيع القليلة الماضية، رأينا الرئيس بايدن والسيدة الأولى يضعان الزهور في مواقع الجرائم المدمرة في كل من بوفالو ويوفالدي. ورأينا مقطع فيديو للآباء الحزانى والأطفال الناجين الجامدة وجوههم. ولا شيء تغير حتى الآن. إذن ماذا بقي؟ ربما إذا أُجبرنا على رؤية القتلى حقاً، سنتحرك لفعل كل ما في وسعنا من أجل الأحياء. من الصعب تصديق أننا سنتخلص من كل أسلحتنا، لكن ربما سنفعل أكثر من عدم الاكتراث.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»