سقوط «المفكر»في زمنه
يقضي بعض الكتّاب المهمومين بقضايا مجتمعاتهم شطراً كبيراً من حياتهم في محاولة تغيير «بوصلة العقل الجمعي» وتوجيهها إلى ما يظنون أنه الصواب. يكتبون المقالات ويؤلفون الكتب ويرسلون الرسالة تلو الرسالة بهدف التأثير على «مجموع الناس» لكنهم في العادة يفشلون في حياتهم في تحقيق مشاريعهم الفكرية لثلاثة أسباب جوهرية.
الأول يتمثل في أن هولاء المفكرين يستخدمون «مبدأ العقلانية» في تواصلهم مع الجماهير، وهذا الأمر لا يستقيم مع طبيعة «تفكير العقل الجمعي» الذي هو في حقيقته أحد صور«الغباء البشري»، فمن المعروف أن الإنسان كائن ذكي في طبيعته المفردة، بينما هو كائن لا يفكر عندما ينتظم في مجموعة جماهيرية معينة، أو عندما يتلقى رسائل فكرية مصممة على شكل كبسولات موجهة للجمهور العام. والثاني، لأن هؤلاء المفكرين لا يضعون في حساباتهم الفروقات العقلية بين الناس، فالحياة بطبيعتها تركيبة معقدة من الجهلاء والعارفين و«السوبر - عارفين»، ومن الخطأ عدم احترام هذه العلاقة بين طبقات البشر.
من أكبر أخطاء المفكرين أنهم يبذلون جهوداً مضنية وعميقة في توحيد المفاهيم والعقليات بهدف إصلاح المجتمعات وتمكينها، بينما الحياة في أصلها لا تستقيم إلاّ بوجود هذا التباين في عقول الناس.
أما الثالث فهو عدم قدرتهم على مجاراة السياسيين أو المشتغلين في «عمليات التجنيد العقلية»، لأنهم ببساطة شديدة الوضوح يتوجهون للجمهور العام برسائل عقلية، بينما يعمل الطرف الآخر (الذي تتخالف أهدافه ومشاريعه مع إطروحات المفكرين) على استخدام «الشحن العاطفي» والذي يُعد هو الطريق الأقصر والأسرع للوصول إلى الجمهور. المفكر العظيم لا يرتقي المنبر ويهتف في الجماهير. السياسي يفعل. المفكر العظيم لا يستخدم الكلمات العاطفية التي تثير المجموع العام.
السياسي يفعل. المفكر العظيم لا يتظاهر أمام الجماهير بأنه يحترم عقول مفرداتها ويؤكد على ما فيها. السياسي يفعل. لذلك نجح السياسيون عبر التاريخ في ما فشل فيه المفكرون. لكن قد يسأل سائل، لماذا بقي إرث المفكرين العظماء في السجلات الإنسانية بينما اختفت مشاريع السياسيين ذوي الهتافات المنبرية والتجييش العاطفي؟
لماذا بقيت أفكار كونفوشيوس حتى اليوم بينما سقطت «العوالم الفكرية/العاطفية» لهتلر على سبيل المثال؟
وأجيب، لأن إرث المفكرين انتقل من مرحلة «الغربة الموحشة» في حياتهم إلى عدد محدود من المتنورين بعد مماتهم، ثم انتقل بعد ذلك إلى عدد أكبر على شكل الهرم المقلوب في العصور اللاحقة حتى وصل اليوم إلى ملايين المتنورين. احتاجت الفكرة الإصلاحية إلى آلاف السنين لتؤثر في المجموعة (وليس المجموع العام). وفي المقابل سقط مشروع السياسي «ذو الوجه العاطفي» باختفاء صاحبه.
لكن السؤال يبقى: هل هذا هو قَدر المفكر الذي لا انفكاك منه؟ وهل إيمان النخبة بأفكاره يكفي لإحداث الأثر؟ والسؤال يبقى أيضاً: هل مشاريع لينين وهتلر السياسية اختفت بالفعل، أو أنها تحولت بمرور الزمن إلى مناهج فكرية؟ والسؤال الأكبر: كيف يؤثر المفكر في الجماهير من دون أن يلبس عباءة السياسي؟
* كاتب سعودي