يستحق كتاب الأستاذ طه عبد الرحمن الجديد، «التأسيس الائتماني لمقاصد الشريعة»، اهتماماً خاصاً. فقد كتبه بعد خمسين عاماً من عمله في بحوث القيم والأخلاق. وبعد عشر سنواتٍ على كتابه «روح الدين».

ثم إنه اتجه فيه اتجاهاً مخالفاً لمعظم الذين كتبوا في مقاصد الشريعة، فأدخلوها في أصول الفقه، وأعطوها وظائف تشريعية، بينما يريد أستاذنا الكبير اعتبارها قيماً كبرى وكليات: من حفظ النفس إلى حفظ العقل إلى حفظ الدين إلى حفظ النسل إلى حفظ الملْك. وقد خطر لي أنّ الأمر يحتاج لأكثر من مبحثٍ وسأقوم بذلك كلما تيسَّر. ولن يكون الأمر أمر ملاحظاتٍ أو مآخذ، بل هو متابعةٌ لبحوث الأستاذ وسير معه في الاتجاه الآخر الذي حاول اجتراحه بخلاف الآخرين من ذوي النزعة الفقهية وذوي النزعة الثقافوية.    

قبل بحوث ومطالعات العلاّمة الشيخ عبد الله بن بيه ما خطر ببالي الحديث عن كليات الشريعة في سياق تشريعي أو استنباط للأحكام. وبالطبع فإنّ تلك الكليات لها معنىً قيمي كبير. بيد أنها، إذا عنتْ المصالح الضرورية، فإنها تمتلك مع المعنى الأخلاقي عند الأصوليين جانباً تشريعياً مهماً.

وهو الأمر الذي لا يراه أستاذنا طه عبد الرحمن عندما يعقد فصلاً هو العاشر لنقد مصير الشاطبي في الموافقات إلى تأسيس المقاصد على «الاستقراء المعنوي». طه عبد الرحمن مثل كارل بوبر(في مناهج البحث العلمي، والحد الفاصل) يرفض استخدام الاستقراء في غير العلوم التجريبية. بينما يرى العلاّمة بن بيه، كالأصوليين الآخرين، أنّ الاستقراء ضروري في عمليات الوصول للقواعد الشرعية. والقواعد الشرعية يتعلق بها الاطّراد القياسي في استنباط الأحكام.  

  بحوث مقاصد الشريعة عند طه عبد الرحمن تتصل بمسائل القيمة في القرآن، وليس ببحوث أصول الفقه. وقد اتخذ هذا المدخل لدرسها بالرجوع إلى الطاهر بن عاشور وعلاّل الفاسي. والحق أنه ما خطر لي في أعمالي حول المفاهيم الأخلاقية في القرآن (استناداً إلى توشيهيكو إيزوتسو) ربطها بالمقاصد (إذا كانت هي المصالح الإنسانية الضرورية). بل تحدثت دائماً عن المنظومة الأخلاقية القرآنية وهي: المساواة والرحمة والعدالة والمعروف والتعارف والخير العام.    

ومرةً أُخرى، ومضياً مع الطابع القيمي والأخلاقي للمقاصد، فإنّ طه عبد الرحمن يختلف مع علماء أصول الفقه والكلام في مفهوم أو مفاهيم العقل. فالمتكلمون والأصوليون، ومنذ المحاسبي ( 243هـ) وأحمد بن حنبل (241هـ) يختلفون مع الفلاسفة فيعتبرون العقل غريزة، بينما يعتبره الفلاسفة جوهراً بسيطاً. أما طه عبد الرحمن فيوافق القائلين باعتبار العقل هو الفطرة (التي فطر الله الإنسان عليها). وفي اعتبار بعض المتكلمين والأصوليين فإنّ العقل الغريزي هو ذاته المعارف الأساسية أو الضرورية، بينما يُصرُّ المحاسبي في رسالته حول«ماهية العقل وحقيقة معناه» على أنّ العقل الغريزي هو قوة استعداد و«عنه تكون» المعارف.

وقبل العودة إلى تأويلية الأستاذ طه عبد الرحمن بالتأسيس القيمي الأخلاقي على الفطرة- ما معنى الاختلاف بين الفلاسفة والأصوليين؟ الأصوليون يقولون بالتساوي في العقول بين الناس وعدم التفاوت. وهكذا فالعقل، باعتباره سلطة تقدير وتدبير، شائعٌ في الناس أفراداً وجماعات ومجتمعات. ولذلك نتائجٌ في الاعتبارات الأخلاقية والسياسية. فعند الفلاسفة النخب المستأثرة بهبة العقل الفعال للعقل المستفاد هي التي تصنع المدينة الفاضلة بالمعنى الأخلاقي والسياسي.

أما عند علماء الأصول والكلام فإنّ «عقل الجماعة» هو الذي تكون عنه النتائج السالفة الذكر. المحاسبي يتحدث عن «العقل عن الله» من جانب الجماعة، أما عند الكندي والفارابي فإنّ «عقل الرئيس» هو الكائن وعنه «تكون المدينة وأجزاؤها».  

 وفي تأويلية طه عبد الرحمن فإنّ الفطرة هي قوة خيرٍ وائتمانٍ في الإنسان، وتأتي النتائج مختلطة «لأن أبويه يهودانه أو ينصرانه أو يمجِّسانه».     كتاب الأستاذ طه عبد الرحمن الجديد في المقاصد، وبالمقارنة مع الأعمال حول المقاصد طوال أكثر من خمسة عقود، يأتي بجديدٍ لافت. وهو يستحق أكثر من مطالعةٍ عابرة. فلا بد من العودة إليه في المزيد من المراجعات في فلسفة الدين، وماهية الشريعة، وتجديد الخطاب الديني.

* أستاذ الدراسات الإسلامية - جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية.