الإسلاميون واليسار «الموقف من التلفاز»
لطالما التقى اليسار الغربي مع الإسلام السياسي في مقولاتٍ تستحق الحصر في كتابٍ كامل، فالمؤلفات المنافحة عن مقولات الأصولية باعتبارها مقاومة للأنظمة الاستبدادية عديدة منها مايكتبه بورغا وأوليفيه روا وآلان جريش وعشرات الكتاب غيرهم. لكن ثمة نقاط التقاء عجيبة تستحق الرصد بين اليسار والإسلام السياسي، ومن ذلك الموقف من «التلفاز». يذكر المتابعون مؤلفات تملأ قاعات عن تحريم هذا الجهاز، ومن بينها كتاب محمد إسماعيل المقدم بعنوان: «الإجهاز على التلفاز» في أواخر التسعينيات. أما كتب «البث المباشر» أو «الدشوش» فلا حصر لها.
يهمنا هنا جهاز التلفاز الذي اعتبرته الأيديولوجيا اليسارية والإسلاموية بأنه «أداة الرأسمالية الحديثة». لن نتحدث عن مضامين نقد الإسلاميين للتلفاز، فهي معروفة مواقف ذريعتها أخلاقية ونشر صور النساء والأغاني والفتن، لكن ما هي حجة فيلسوف يساري شهير له صيته مثل بودريار؟! بحسب «بودريار» في كتابه: «المصطنع والاصطناع» بكتابه يتجه نحو تكريس أطروحته حول «موت الواقع» فـ«حرب الخليج لم تقع» وفضيحة «ووترغيت» لم تحدث، لذلك يقول: «في كل مكانٍ تقاس تنشئة الناس الاجتماعية بدرجةٍ تعرضهم للرسائل الإعلامية. وبالتالي تُنزع اجتماعية الفرد، أو يكون، افتراضياً، لا اجتماعياً، عندما لايتعرض بالقدر الكافي للميديا، وفي كل مكانٍ يؤمل من الإعلام إنتاج تداول مسرّع للمعنى، أو فائض قيمة المعنى الشبيه بفائض القيمة الاقتصادي الناجم من التداول المسرع للرأسمال.
ويتم تقديم الإعلام بوصفه خالقاً للتواصل، وحتى لو كان الهدر كبيراً فهناك إجماع عام يرى أن هناك على العموم فائضاً في المعنى يعاد توزيعه في جميع ثنايا المجتمع... بدل أن يعمل الإعلام على خلق الاتصال فإنه يستنفد ذاته في إخراج الاتصال». ثم يشرح كيف أن التلفزيون يمكن أن تضيع فيه أقطاب التعيين المتعارضة، وفق اندغامٍ أو انكماش ذري للترسيمة القطبية القديمة التي احتفظت دوماً بمسافةٍ دنيا بين سببٍ ونتيجة بين ذاتٍ وموضوع.
من أبرز نقاد بودريار ماقدمه علي حرب في كتبه بعد الألفية منذ «نقد النخبة» وحتى «أحاديث النهايات»، ويتقدم بمرافعةً فلسفية موسعة عن بودريار ودوبريه وآخرين. الموقف من التلفاز بين اليسار والإسلاميين، ضربته مثلاً لٍلتلاقي بالصدفة، أو تلاقي التقاء الأهداف، وهذه ليست وظيفة المقالة أن تسرد عشرات الأمثلة، وإنما الموقف من التلفاز، أو «نشرات الأخبار» باعتبارها منتجات رأسمالية يمكنها زعزعة المشاريع التي يدعو إليها كل طرف.
بقي التلفزيون، وهيمنتْ الرأسمالية، وتوسعتْ صناعة الإعلام والميديا، وظهر «تليفزيون الواقع»، الذي شنّ عليه «بودريار» حملة شعواء في كتابه آنف الذكر، وهاهو الآن التلفزيون يتجه نحو تبويب برامجه في «السوشال ميديا» مستعداً لعصر «مابعد الإعلام القديم»(إعلام أوائل الألفية يصنّف بأنه تقليدي اليوم)، ولكن مع ذلك سادت الثقافة الأميركية، والتي يستمتع بها العالم من الدفع عبر الموبايل إلى تطبيقات السينما الكفيّة. ذهب الانكفاء والانعزال، وصدقت نبوءات فلاسفة الاختلاف. تفوّقت فلسفات المفاهيم على فلسفات النظرية الشمولية ونظريات الخلاص.
كان «بودريار» مثل الأصوليين يشتم «الحياة الزائفة» التي تهيمن عليها الهيمنة الأميركية، والسيطرة الإعلامية، وقسوة الإعلان، ولهاث الاستهلاك، هذه كلها مقولات تصعيدية ضد الواقع، ولكن الواقع أكبر من النظرية، لم ينجح في تفوقهم لاستشراف القادم سوى الذين فهموا الحاضر بشكلٍ واقعيٍ عقلاني، ولم يثوروا مثل الأصوليين عليه، بل درسوه كما هو، وصف «بودريار» أميركا مرةً بأنها:«نهاية المعنى واختفاؤه» وبأنها «بلدة سينمائية»، وأنها «علامة انهيار كل شيء». خلاصة القول: إن عواقب معارضة التحولات الكبرى في تاريخ البشرية انقراض النظريات واختفاء المقولات، هذا هو الفرق اليوم بين مقولات «بودريار» التي لم تعد ذات تأثير، وبين أخرى لا تزال مضيئة وفذّة.
* كاتب سعودي