لماذا فشل الردع في أوكرانيا؟
لم تسِر العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا على ما يرام بالنسبة للجميع. فالقوة الروسية المتصوَّرة تقلصت على نحو ملحوظ. وأوكرانيا تكبَّدت خسائر لا تحصى ولا تعد.
والاقتصاد الروسي سيعاني كثيراً، والاقتصاد العالمي سيعاني بعض الشيء. وبدون أي مؤشرات في الأفق على قرب نهاية لهذه الحرب، فلا شك أن هذه نتيجة لم يكن يرغب فيها أحد.
والغريب هو أن اللاعب الذي يعتقد أنها سارت على ما يرام هو البنتاجون، ووفقاً لزميليَّ مِن صحيفة «واشنطن بوست»، غريغ جاف ودان لاموث، فإن «مسؤولين رفيعين في البنتاجون يشعرون حالياً بثقة كبيرة في القوة الأميركية، نتيجة الفعّالية المفاجئة للقوات الأوكرانية المدعومة من الولايات المتحدة، والخسائر الروسية الثقيلة على ساحة المعركة، والدروس التحذيرية التي يعتقدون أن الصين تستخلصها من الحرب». غير أن هذا يغفل حقيقة أن إطار «الردع المتكامل» لإدارة بايدن فشل في منع روسيا. نعلم هذا لأن روسيا أقدمت على عمليتها رغم التحذيرات الأميركية.
والسؤال هو ما إن كان من الممكن منع هذا الفشل. وبشكل أكثر تحديداً: هل كان بوسع إدارة بايدن منعه؟ عندما سأل جاف ولاموث مصادرهما حول لماذا لم تُردع روسيا، تَلقيَا إجابات مختلفة ومتباينة: فمسؤولو البنتاجون يرون أنه لا يوجد شيء كان يمكن أن يفعلوه لردع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي كان يتوقع نصراً سريعاً وسهلاً في أوكرانيا، محاججين بأن استراتيجية «الردع المتكامل» الأكبر التي يتبعونها، والتي تستخدم قوة الرد الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية، نجحت حتى الآن في منع روسيا من توسيع الحرب إلى أراضي «الناتو». ويذكر هنا أن إدارة بايدن جعلت من الردع المتكامل حجر الزاوية في «استراتيجية الدفاع الوطني» التي ستصدرها قريباً، والتي أُخرت مع تنامي تهديد الغزو.
لكن آخرين أشاروا إلى العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا كدليل على فشل الفكرة، ومن هؤلاء عضو مجلس النواب الأميركي مايك غالغر (الجمهوري عن ويسكونسن) الذي ذكر في حوار مع أنه يختلف «بشدة وبشكل كامل» مع كل مَن يشير إلى أوكرانيا كمثال لنجاح الردع المتكامل، إذ قال: «لا أستطيع أن أفهم كيف يمكنهم الدفع بتلك الحجة»، مضيفاً: «إن كل استراتيجية الردع كانت تقوم على فكرة أن التهديد بعقوبات محدودة يمكن أن يردع بوتين».
والواقع أنه من الممكن أن يكون كل من غالغر والبنتاجون محقين. فغالغر محق في أن تهديد العقوبات لم يردع روسيا. وفي هذا الإطار، اعترف وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف بأنه فوجئ بحجم العقوبات الأميركية على البنك المركزي الروسي، قائلاً: «ما كان أحد يتوقع نوع العقوبات التي قد يطبّقها الغرب». وإذا كان لافروف قد فوجئ، فهذا يعني أن الروس قلّلوا من شأن تكاليف العملية العسكرية. وهذه مشكلة حقيقية: فلكي ينجح الردع، كانت روسيا في حاجة إلى تصور دقيق لتكاليف وأخطار أفعالها.
وفي الوقت نفسه، لم يكن من الممكن التحدث مسبقاً عن شكل وطبيعة هذه العقوبات، وإلا فإن روسيا كانت ستفعل شيئاً ما من أجل الحد من الخسائر. هل كان بالإمكان أن يقوم بايدن بأي شيء أكثر من الذي قام به؟ عند الاستماع إلى الخبراء المتخصصين في روسيا، سمعت بعض التصريحات المفاجئة.
فتيموثي سنايدر قال لزميلي من «واشنطن بوست»، غريغ سارجنت، إن «الروس كانوا مركزين حقا على تاريخ 6 يناير (ذكرى اقتحام مبنى الكونجرس)، حيث كانوا يعتقدون أن من شأن عملية عسكرية ناجحة في أوكرانيا أن تجعلنا نشعر بالعجز، ونسقط في صراع، ويساعد ذلك ترامب في الولايات المتحدة».
وقد سمعتُ خبراء آخرين في الشؤون الروسية يدفعون بحجج مماثلة، لكن مع عنصر جديد، إذ يضيفون أيضاً الانسحاب الأميركي الخطير من أفغانستان باعتباره عاملاً مساهماً. ووفق هذا التصور، فإن بوتين شعر بأنه يستطيع التحرك لأنه كان يعتقد أن حلف «الناتو» بات مفككاً وأن تحركاً بشأن أوكرانيا من شأنه أن يخرّب التحالف ويزيده تفككاً. هذه القصص قد تنطوي على جزء بسيط من الحقيقة، لكن ليس أكثر من ذلك.
لقد كان هناك كم كبير من التحليلات مؤخراً بشأن طريقة تفكير بوتين: فروجر كوهين أو ميخائيل زايجر في صحيفة «نيويورك تايمز»، ودميتري ألبيروفيتش في دورية «فورين أفيرز».. عبّروا عن أفكار مماثلة مفادها أنه مع الوقت، أصبح بوتين شخصاً أكثر ارتياباً واستياء حيال الولايات المتحدة. بوتين يعتقد أن أوكرانيا ليست بلداً حقاً، ودافعه للتحرك كان كبيراً. ولا شك في أن ردع روسيا كان سيتطلب الدخول إلى أعماق تلك النظرة نحو العالم، لكني لا أرى كيف كان من الممكن حدوث ذلك.
فهناك الكثير جداً من البيانات التي تُظهر أن بوتين كان يظن أن الحرب في أوكرانيا ستكون على شاكلة الدور الروسي في سوريا وجورجيا والقرم: انتصارات سريعة وبدون ألم (الجيش الروسي كان يتصرف على نحو مماثل).
وكما قال «روب لي» في تغريدة على تويتر: «أستبعد أن بوتين كان سيقرر اجتياح أوكرانيا لو عرف أن ذلك سيصبح حرب استنزاف». لستُ منتشياً مثل البنتاجون، لكن تقييم هذا الأخير ربما يكون صائباً: إنه لم يكن من الممكن ردع روسيا عن الذهاب إلى أوكرانيا، غير أن العقوبات الأميركيةخلال الشهر الماضي كانت وسيلة ردع فعّالة لأي قوة عظمى أخرى تفكر في مطالبات إقليمية.
*أستاذ السياسة الدولية بكلية فليتشر للقانون والدبلوماسية التابعة لجامعة تافتس.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلوميبرج نيوز سيرفس»