الأزمة الأوكرانية.. تهديد للأمن الغذائي العالمي
في الشهر الجاري، حظرت أوكرانيا تصدير القمح، وبدأت تنثر الألغام في حقول الحبوب الشتوية وعباد الشمس لإبطاء تقدم القوات الروسية. وهذا نزل كأنباء قاتمة على الأسر المصرية التي تكافح جاهدة أصلاً لتوفير الغذاء. وكانت مصر التي تعتمد على أوكرانيا وروسيا في نصف وارداتها الغذائية تواجه بالفعل اضطرابات في الإمدادات الغذائية وارتفاع الأسعار نتيجة لجائحة كوفيد-19 وخسائر الإنتاج المرتبطة بالمناخ. أما الآن، فقد أدت الحرب الروسية في أوكرانيا إلى ارتفاع أسعار الحبوب وزيوت الطهي في الأسواق المصرية. وإذا استمر هذا، فقد يفرض ضغوطاً جديدة على الأوضاع الاجتماعية في مصر.
وأكد «ديفيد لابورد»، الباحث البارز في الأسواق والتجارة والمؤسسات في المعهد الدولي لأبحاث السياسات الغذائية في واشنطن أن «مخزونات الغذاء العالمية كانت قبل الحرب منخفضة للغاية وأقل مما كانت عليه بين عامي 2007 و2008 حين شهدنا أزمة أسعار الغذاء الكبيرة السابقة». ومضى يقول «الآن لدينا هذه الحرب في سلة خبز شمال أفريقيا والشرق الأوسط. صحيح أننا قد لا نشهد مجاعة في مصر، لكن قد نشهد عواقب غير متوقعة ومزعزعة للاستقرار في جميع أنحاء المنطقة». وتقدم مصر مجرد مثال واحد لما قد يعنيه فراغ سلة الخبز في أوكرانيا فجأة بالنسبة للعالم، وخاصة بالنسبة البلدان التي تعاني بالفعل من انعدام الأمن الغذائي. فأوكرانيا توفر نحو 12% من القمح قي العالم و15% من صادرات الذرة العالمية. ومنطقة الشرق الأوسط وأفريقيا تستقبل نحو 40% من صادرات أوكرانيا من القمح والذرة. وعلى مدى العقدين الماضيين، جعلت أوكرانيا وروسيا منطقة البحر الأسود معاً قوة غذائية عالمية تمثل نحو 30% من صادرات القمح العالمية. وتعتمد 26 دولة الآن على البلدين في أكثر من 50% من الحبوب والزيوت، وفقاً لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو).
والواقع أن أوكرانيا انتقلت من «المجاعة الكبرى»- التي فرضتها روسيا السوفييتية على أوكرانيا قسرا في ثلاثينيات القرن الماضي، وأودت بحياة ما قُدر بنحو 3.5 مليون أوكراني - إلى مصدر تموين رئيس للغذاء العالمي. وهذا يعد مثالاً مذهلاً على التقدم البشري في التاريخ الحديث. والآن مع انسحاب أوكرانيا المفاجئ نتيجة الحرب من سلاسل الإمدادات الغذائية العالمية، ومع توقف صادرات الحبوب من روسيا، حذر خبراء من جولة جديدة من انعدام الأمن الغذائي وارتفاع أسعار مرهق يذكرنا بأزمة أسعار الغذاء التي صاحبت الانهيار المالي العالمي بين عامي 2007 و2008. وأشاروا إلى أن البلدين يعدان أيضاً مصدرين رئيسين للأسمدة الزراعية. وتعطل إنتاج الأسمدة في أوكرانيا، والعقوبات المفروضة بسبب الحرب على المنتجات الزراعية الروسية، سيؤدي إلى زيادة تكلفة الزراعة على مستوى العالم، ويساهم في نهاية المطاف في ارتفاع أسعار الغذاء.
ويأمل هؤلاء الخبراء أن يروا الدول الرئيسة الأخرى المنتجة للأغذية تتدخل وتحافظ على حصيلة صادراتها أو حتى زيادتها، وتمتنع عن فرض إجراءات حمائية. وعبر محللون للتجارة العالمية عن تفاؤلهم حتى الآن بسبب عدم فرض قيود مؤثرة على تصدير المواد الغذائية التي قد تستخدمها البلدان لخفض أسعار المواد الغذائية لديها. لكن المقارنة بأزمة أسعار الغذاء السابقة جعل وكالات حكومية من بينها البنتاغون، تترقب تصاعد صراعات متعلقة بالغذاء وعدم الاستقرار الاجتماعي، وخاصة في مناطق للولايات المتحدة فيها مصالح أمنية وطنية مهمة، مثل مصر.
وتتوقع «كيتلين ويلش»، مديرة برنامج الأمن الغذائي العالمي في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن «تفاقم عدم الاستقرار السياسي إذا بدأنا نرى احتجاجات على ارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية». ولا أحد يتوقع الآن احتجاجات على أسعار الغذاء تجتاح بلداناً نامية على المدى القصير، وهناك عدد من البلدان، منها مصر لديها على الأقل دعم متواضع للمواد الغذائية لتخفيف عبء ارتفاع الأسعار. والقلق الأكثر إلحاحا هو التأثير الذي ستحدثه أسعار الغذاء المرتفعة على المساعدات الإنسانية لبلدان تعاني بالفعل من انعدام الأمن الغذائي المتزايد، مثل اليمن وأفغانستان وجنوب السودان.
وتؤكد «جولي مارشال»، المتحدثة باسم برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة أن «تعطل إمدادات الغذاء والارتفاع الكبير في الأسعار سيؤثر حقاً في دول تعاني شعوبها بالفعل وسيدفع بمزيد من الناس نحو الجوع». وعلى سبيل المثال، في اليمن الذي استمد ربع وارداته من القمح في السنوات الماضية من أوكرانيا، أدت التقلبات الأخيرة في أسواق المواد الغذائية إلى تفاقم الظروف المعيشية المحفوفة بالمخاطر بالفعل في البلد الذي مزقه الصراع. وقفز عدد اليمنيين الذين يحتاجون إلى مساعدات غذائية مؤخراً من 16 مليونا العام الماضي إلى 17.4 مليون. ويتوقع برنامج الأغذية العالمي أن يضاف نحو مليوني يمني إلى قائمة المعتمدين على المساعدات الغذائية في النصف الثاني من العام.
وخلال الأسابيع القليلة الماضية، أضاف برنامج الأغذية العالمي أوكرانيا إلى قائمة البلدان التي تحتاج لمساعدات غذائية طارئة. وكثفت المنظمة جهودها لتوفر الخبز ل 60 ألف شخص يومياً في خاركيف، ولتقدم أغذية مرتفعة السعرات الحرارية لـ 30 ألف شخص في كييف. وذكرت مارشال- المتحدثة باسم برنامج الغذاء العالمي- أن البرنامج قدم في الآونة الأخيرة 450 طناً من طحين القمح للمخابز العاملة لإنتاج الخبز. وتوقع البرنامج أنه سيحتاج 19 مليار دولار في 2022 لإطعام 145 مليون شخص. ويواجه البرنامج فجوة تمويل تمثل 50%.
وهناك علامات استفهام كبيرة تحوم فوق أسواق الغذاء العالمية مثل مدى استمرار حرب أوكرانيا ومدى الدمار الذي قد تلحق الحرب بالبنية التحتية للصادرات الزراعية في البلاد، مثل صوامع الغلال ومصانع الأسمدة ومرافق الموانئ. وذكر «تاراس دوزبا»، نائب وزير السياسة الزراعية والغذاء الأوكراني، في مؤتمر نظمه مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن في الأيام القليلة الماضية أن المزارعين الأوكرانيين الذين لم يتركوا حقولهم لينخرطوا في القتال، أو لم يتم تدمير مزارعهم «يضعون علم أوكرانيا على جراراتهم الزراعية حتى في المناطق التي يسيطر عليها الروس» دليلاً على التحدي.
ولكن «دوزبا» أكد أن الزراعة في الربيع ستكون أقل وأنه «حتى لو انتهت الحرب غدا» فلن يتمكن المزارعون الأوكرانيون إلا من زراعة 8 أو 9 ملايين هكتار، بينما زرعوا العام الماضي أكثر من 50 مليون هكتار. وتعاني البنية التحتية لتصدير المواد الغذائية في أوكرانيا من أضرار جسيمة، مع ورود تقارير عن سقوط قذائف روسية على صوامع الغلال في البلاد. وذكر دوزبا، متحدثاً من كييف، إن قطاع تصدير اللحوم المزدهر في أوكرانيا قد تعرض للدمار و«هذا سيمتد إلى بلدان أخرى ويؤثر على اقتصاداتها». وتحولت شركة «إم. أتش. بي. MHP» الأوكرانية، سادس أكبر مُصدر للدواجن في العالم قبل الحرب، إلى تلبية الاحتياجات داخل البلاد لتوزع مئات الأطنان من لحوم الدجاج يومياً، بحسب ما تسمح به الظروف الأمنية.
وذكر خبراء في الأمن الغذائي أن من المهم تعزيز التمويل لمواجهة الاحتياجات الإنسانية التي ستتزايد في الأشهر المقبلة، لكن الأهم هو تفادي إغراء فرض إجراءات حمائية على أسواق الغذاء والأسمدة في العالم. وبالإضافة إلى هذا، يرجو لابورد- الباحث في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية- أن يشهد العالم مبادرات لتقديم المساعدة للمزارعين في بلدان فقيرة لا تستطيع ببساطة تحمل صدمة الزيادة الكبيرة في أسعار الأسمدة.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»