الدستور الأميركي وسلطة الولايات
يرى ملايين الأميركيين أن الدستور كُتب لحماية وتوسيع سلطات وامتيازات الولايات، وأنه أرسى حكومة قومية «محدودة» وأبقى لحكومات الولايات على عدد كبير من الحقوق والمسؤوليات. ومقصد الدستور الأساسي، في وجهة النظر هذه، هو تقييد الحكومة الاتحادية قدر الإمكان. وإذا كان هناك سبب واحد، بخلاف الحزبية، فأي شخص تجذبه فكرة واضحة الخلل مثل عقيدة «الهيئة التشريعية المستقلة للولاية»- كتبت عنها في الآونة الأخيرة- فإن هذا السبب يتماشى مع الاعتقاد السائد بأن حكومات الولايات لها المكان الأهم في النظام الدستوري الأميركي.
لكن هذا التصور ينطوي على سوء فهم. فحتى في العصر الذي كانت فيه حكومات الولايات أكثر تمتعاً بالاستقلالية أو بالحكم الذاتي مما هي عليه اليوم. لما يقرب من 80 عاماً بين التصديق على الدستور وانتهاء الحرب الأهلية، ظل مفهوم تبعية الولايات للحكومة الاتحادية قائماً. وقد تمتعت الحكومة الاتحادية بسلطة كبيرة للعمل والتأثير على الولايات. وإلا فلماذا يطور رجال ولاية ساوث كارولاينا قبل الحرب نظريةَ الإلغاء، إن لم يكن الغرض من هذا هو الطعن في الرأي السائد بأن الولايات ملزمة بالخضوع لإرادة الحكومة القومية؟ وإذا عدنا إلى السنوات الأولى للجمهورية الأميركية، سنجد أن أحد الأهداف الرئيسية للدستور كان كبح سلطة الولايات وربطها بالسلطة الأوسع للحكومة القومية الجديدة بقيادة هيئة تشريعية قوية وسلطة تنفيذية منتخبة استثنائية السلطة.
فقبل شهر من وصوله إلى فيلادلفيا ضمن 55 مندوباً إلى مؤتمر لتعديل مواد الاتحاد في الدستور، كتب جيمس ماديسون (البالغ من العمر حينذاك 36 عاماً ونائب فيرجينيا في كونجرس الكونفدرالية) نقداً مفصلا للحكومة الأميركية في حينه، متعقباً ما اعتقد أنه أكثر نقاط ضعفها وضوحاً، وهي الولايات نفسها. وذكر ماديسون أن من بين «رذائل النظام السياسي للولايات المتحدة» التي أشار إليها في نقده «تقاعس الولايات عن الامتثال للمطالب الدستورية»، وكان يقصد رفضَها المساهمةَ في التمويل العام. ومن هذه الرذائل أيضاً «تجاوز الولايات للسلطة الاتحادية، وتعديها على حقوق بعضها البعض، وعدم الاهتمام بالمسائل التي تتطلبها المصلحة المشتركة».
وسأل ماديسون: «إلى أي مدى تأثرت الكرامةُ القوميةُ والمصالحُ والعائداتُ من هذه القضية؟»، وأجاب بأنه في بعض الحالات تكون هناك حاجة إلى توحيد القوانين المتعلقة بالجنسية والملكية الأدبية وتوفير التمويل لإقامة المعاهد القومية ولشق القنوات وغيرها من الأعمال ذات المنفعة العامة، وهي أمور قد يسحقها حالياً رفض ولايات معينة تكون موافقتها ضرورية. وفي رسالة إلى إدموند راندولف، حاكم ولاية فرجينيا حينذاك، قال ماديسون بصراحة إن «الاستقلال الفردي للولايات لا يمكن بالمرة التوفيق بينه وبين فكرة سيادة جمعية».
ورغم أنه قد يكون من غير العملي محاولة تحقيق «توحيد كامل للولايات في جمهورية واحدة بسيطة»، اعتقد ماديسون أن المؤتمر يجب عليه محاولة العثور على منطقة وسطى «تدعم في الحال تفوقاً واجباً للسلطة القومية، وتترك السلطات المحلية ساريةً طالما أنها قد تكون نافعة بالتبعية». وظهرت اشتراطات في النسخة النهائية من الدستور للحد من سلطة الولايات. فهناك للكونجرس سلطات واسعة وغير محدودة تقريباً في فرض الضرائب وتكوين جيش والحفاظ عليه وسلطته في تنظيم التجارة بين الولايات والتجارة الخارجية وتخويله العام بفعل كل ما هو «ضروري ومناسب» للوفاء بالتزاماته. وكل هذه السلطات جاءت رداً على ضعف البنود والطريقة التي مكّن بها هذا الضعف الولايات من عدم المبالاة بالمصالح المشتركة.
ويقول بند السيادة حرفياً: «هذا الدستور وقوانين الولايات المتحدة التي يجب أن تصدر بموجبه، وجميع المعاهدات المبرمة أو التي ستبرم بموجب سلطة الولايات المتحدة، يجب أن تكون القانون الأعلى للولاية، والقضاة في كل ولاية ملزمون بذلك، بغض النظر عن وجود ما يخالف هذا في دستور أو قوانين أي ولاية». وهذا البند يمثل أيضاً نتاج رغبة واضعي الدستور في الحد من سلطة حكومات الولايات قدر الإمكان. ولا مصادفة في أن يخص معارضو الدستور معاملةَ الولايات باعتبارها اعتداءً فظيعاً على حرية الشعب الأميركي.
وجاءت إحدى الاستجابات على هذا ببساطة في صورة التعديل العاشر للدستور الذي ينص على أن «الصلاحيات التي لم يتم تخويلها للولايات المتحدة بموجب الدستور، ولم يتم حرمان الولايات منها، محفوظة للولايات على التوالي، أو للشعب». واعتبر عدد كبير من المحافظين هذا تأكيداً لحقوق الولايات يثبت نية واضعي الدستور حمايةَ سلطة حكومات الولايات. لكن ماديسون رأى في التعديل الذي كتبه أنه كان تلخيصاً «دون لزوم» لمبدأ أن الحكومة الاتحادية واحدة من سلطات متعددة وليست الأصيلة. ولم ير ماديسون «أي ضرر في إصدار مثل هذا الإعلان»، إذا كان سيخفف من قلق المعارضين من «أن الدستور لم يمنح الولايات حماية كافية لضمان استمرار وجودها».
ما أهمية هذا؟ وما علاقته بالحاضر؟ بدايةً، يعد هذا تصحيحاً مفيداً في ضوء النظريات التي ظهرت، مثل عقيدة «الهيئة التشريعية المستقلة للولاية» التي ذكرتُها سابقاً وتستند على وجهة نظر متمركزة حول الولاية تجاه الدستور، لكنها تنهار مع إلقاء نظرة سريعة على التاريخ.
ويكمن خلف قضية النظريات القانونية المغرضة مسألة الولايات التي لم يتم حلها. فنحن لا نعيش في زمن تتحرك فيه عدة ولايات بسرعة للحد فحسب من حق سكانها في الحصول على حق الإجهاض وغيرها من الحقوق، لكننا نعيش أيضاً في زمن تعمل فيه المحكمة العليا على تقليص قدرة الكونجرس على التدخل في مسائل حقوق التصويت.
وهذا يضاف إلى الخطوات التي اتخذتها المحكمة بالفعل للحد من قدرة الكونجرس على إلزام الولايات وإجبارها في قضايا معينة تتعلق بالسياسة القومية. وإذا تذكرنا أن الدستور كُتب في جزء كبير منه لإضعاف وتقويض حكومات الولايات، فسيمثل هذا -فيما أعتقد- الخطوةَ الأولى نحو تأكيد سلطة الكونجرس، ليس فقط على الولايات ولكن على المؤسسات، مثل المحاكم، التي تجاوزت سلطتُها نظامَنا الخاص بمراقبة السلطات لبعضها والتوازن في ما بينها.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»
Canonical URL: https://www.nytimes.com/2022/03/15/opinion/madison-constitution-states-rights.html