حروب الغرب.. والخيار الحضاري
رحم الله المفكر المغربي المهدي المنجرة..كان أول من استخدم مقولةَ «الحرب الحضارية» في كتابه الذي خصصه لحرب تحرير الكويت، وكان استخداماً خاطئاً ناقشتُه فيه عند صدور كتابه. بعد ذلك بثلاث سنوات صدرت مقالة هنتغتون الشهيرة حول «صدام الحضارات»، والتي وُظِّفت على نطاق واسع بعد اعتداءات 11 سبتمبر 2001 التي كانت هجمات إرهابية لا يمكن النظر إليها من أي خلفية حضارية أو ثقافية. وقد برزت في الساحة العربية مدرستان: ذهبت إحداهما إلى أن الولايات المتحدة الأميركية (أو الغرب إجمالا) تقود هذه الحرب الحضارية ضد المسلمين استناداً إلى الحربين الأفغانية والعراقية (2001 و2003)، وزعمت الثانية أن روسيا عادت إلى نمط من النزوع الديني الصليبي ضد الإسلام والمسلمين بما تعكسه حرب الشيشان ودعم الصرب ضد البوسنة.
ما ظهر مؤخراً من الحرب الأوكرانية التي هي حرب أهلية أوروبية هو زيف تلك التأويلات الثقافية للصراعات الدولية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. قد يذهب البعض إلى اختزال المواجهة في صراع بين المسيحية الأرثوذكسية الروسية والكاثوليكية الأوكرانية، بيد أن العامل الديني في الحقيقة ليس حاسماً ولا مؤثراً في الصراع الجاري راهناً، والذي هو صراع تقليدي حول الهيمنة والمصالح.
ما حدث في الأعوام الأخيرة هو انفجار مفهوم الغرب نفسُه إلى ثلاثة اتجاهات متمايزة تتشابك وتتصادم في كل البلدان المدعوّة غربياً بما فيها روسيا نفسها. المفهوم الأول هو الغرب الليبرالي القائم على ثالوث السوق الحر والديمقراطية التعددية والعلمانية المدنية، ونعني هنا النموذج المقنن والمعتَمد في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا الغربية وبلدان أوروبا الوسطى والشرقية بعد خروجها من السيطرة السوفييتية. وقد نضم إليها بلدان لا تنتمي إلى الغرب الجغرافي مثل اليابان وكوريا الجنوبية.
المفهوم الثاني هو الغرب المحافظ الشعبوي وغير الليبرالي الذي يُربط عادةً بـ«روسيا البوتينية»، لكنه تحوَّل في السنوات الماضية إلى لون سياسي وأيديولوجي صاعد في الديمقراطيات الغربية العريقة وفي الأنظمة الليبرالية الناشئة. من أبرز تجليات هذا الغرب النظامان الحاكمان في بولندا وهنغاريا (المجر)، والحالة الترامبية في الولايات المتحدة، والأحزاب اليمينية المتشددة التي تزايد تأثيرها ونفوذها في عموم دول أوروبا الغربية.
المفهوم الثالث هو الغرب المسيحي الأبيض الذي لا يزال تصوراً سائداً في العديد من الأوساط الفكرية والسياسية، وهو يختلف عن المفهوم الثاني من حيث رفضه لقيم العلمانية والحداثة وتشبثه بالمقاربات اللاهوتية الوسيطة التي يعتبرها جوهر الهوية الأوروبية.
ما نلمسه راهناً هو تصادم هذه الاتجاهات الثلاثة التي تلتقي في كونها ترجمات متباينة لنفس المرجعية الحضارية، أي الغرب بمفهومه الأوسع.قبل أيام كتب الفيلسوف السلوفاني «سافوي جيجك» مقالا هاماً نبّه فيه إلى أنه في الوقت الذي تُرفع شعاراتُ حقوق الإنسان وكرامتُه في الغرب لمواجهة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، يتم التمييز على أساس ديني وعرقي بين المهاجرين المسموح لهم بدخول أوروبا.
وقد تساءل «جيجك»: كيف يمكن أن نشكو من انحسار وتراجع القيم الليبرالية الغربية في بقية العالم إذا كانت هذه القيم توظَّف انتقائياً وتستخدم مصلحياً عند الضرورة وتنتهَك دون خجل؟ لقد طرح جيجك هنا إصبعه على سؤال محوري يتعلق بالعلاقة الإشكالية بين الغرب في مفهومه الليبرالي الكوني المؤسَّس على قيم الذاتية والحرية والنزعة الإنسانية الشاملة، والغرب في مفهومه الاستراتيجي والسياسي المغلق. ا
لغرب بالمفهوم الأول يترجم ديناميكية التقدم الإنساني في العصور الحديثة، وهو بالتالي المرجعية الكونية للبشرية باختلاف سياقاتها الثقافية الأصلية، والغرب بالمفهوم الثاني محور من محاور الصراع الدولي المتجدد ومسرح لنزعات انكفائية قد تصل إلى مستوى مقلق من التشدد والعدوانية. إن المشكل ينبع بالنسبة لنا من الخلط بين هذين المستويين، فتؤدي بنا الأخطاء الاستراتيجية والسياسية للدول الغربية الكبرى التي تزايدت بوتيرة متسارعة في منطقتنا، وعلى حساب مصالحنا الحيوية، إلى إدارة الظهر للفكر التحديثي والقيم المدنية المعاصرة باعتبار مرجعيتهما الغربية.
كان الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة يقول: «لقد حررت تونس يوم أدركت أن المطلوب هو محاربة الفرنسيين على صعيد فكرهم ومن منظور منطقهم، فأرغمتهم على أن ينسجموا مع قيمهم وأفكارهم». وحاصل الأمر أن ما كشفت عنه الحرب الأوكرانية الحالية هو أن الصراع الدولي الراهن ليس صدام حضارات بل هو صراع غربي داخلي، والخيار المتاح لنا هو الوقوف مع الغرب الحداثي والإنساني. *أكاديمي موريتاني