حرب باردة.. وصراع هوياتٍ
الحرب الروسية الأوكرانية نقطة تحوّل تاريخية مهمةٍ، لا على مستوى الصراع السياسي المباشر بين الغرب وروسيا، بل وبين الهويات المضطربة لكلا الطرفين ومحاولة إعادة تشكيل الهوية والدور والتأثير. تداول العالم أقوالاً مبعثرةً لبعض الصحفيين الغربيين تستنكر الحرب الروسية- الأوكرانية لسببٍ عرقيٍ محضٍ يكمن في لون البشرة والعيون التي ينتمي لها طرفا الصراع، وهو حديث سخيف علمياً وموضوعياً، ولكنه يحيل إلى معهودٍ ذهني خاطئ تشكل عبر سنواتٍ أو عقودٍ قليلةٍ من عمر التاريخ الممتد مفاده أن الأوروبيين لا يتقاتلون ببشاعة، وهذا كلام بلا زمامٍ من معرفةٍ ولا خطامٍ من تحليلٍ.
تاريخياً، كانت حروب أوروبا من أبشع الحروب التي عرفها التاريخ «حرب المئة عام» و«حرب الثلاثين عاماً» و«الحرب العالمية الأولى» و«الحرب العالمية الثانية» وبشاعاتها لا يمكن قياسها بأي حروبٍ أخرى حول العالم، واستخدام «القنبلة النووية» الوحيد والأبشع في التاريخ كان بقرارٍ أميركي غربيٍ محضٍ.
ما يجري في الحرب الروسية الأوكرانية هو تجلٍ ضخمٍ لحرب باردة جديدةٍ، وهو لا يعبر عن صراع المصالح -على أهميته- فحسب، بل وعن صراع الهويات، وهو صراع عميقٍ وخطير، فروسيا تعيش لحظة تفتيشٍ عن هويتها الجديدة وعن «قوميةٍ» روسية جامعةٍ، والنقد الحادّ الذي قدّمه الرئيس بوتين للشيوعية والاتحاد السوفييتي أوضح مثالٍ على هذا الصراع وتصاعد حضور «الأعراق» للشعوب الأوروبية وخلفياتها يستدعي تاريخاً عميقاً وصراعاتٍ هوياتية خطيرة.
أميركا بالمقابل، تعيش صراعاً حول نفسها ودورها الدولي، بين المحاولات «الأوبامية» للانسحاب من العالم ومحاولات «بايدن» للهيمنة عليه في مواجهة روسيا والصين، ومع انتمائه للأوبامية والانسحابية إلا أنه يسعى لمواجهة كبرى مع روسيا ومواجهة أكبر مع الصين في الوقت نفسه، وقد عبّر كيسنجر مرةً عن صراعٍ سابقٍ شبيه بما يجري اليوم في أميركا بقوله: «إن الجديد في النظام العالمي الناشئ أن أميركا -وللمرة الأولى- أمست عاجزة عن الانسحاب من العالم وأضعف من الهيمنة عليه».
انتصرت أميركا في الحرب الباردة بعد قرابة النصف قرن من الصراع مع الاتحاد السوفييتي لأنها كانت قوية بكل المقاييس وهي تخوض تلك الحرب حتى قال الرئيس كينيدي في 1961: «أميركا قوية حتى بوسعها أن تدفع أي ثمنٍ وتحمل أشد عبء» وانتصرت في 1991 (بعد ثلاثين عاماً) والمشكلة اليوم هي فيمن يريد الانتصار في حربٍ باردةٍ جديدةٍ خلال ثلاثة أشهرٍ أو ثلاث سنواتٍ فقط. دول الشرق الأوسط العربية القوية التي تسعى لاستثمار قوتها السياسية والثقافية والاقتصادية في تعزيز استقرارها السياسي وأمنها الشامل وتنميتها المستدامة، تسعى في الوقت نفسه لبناء «الرفاه» باعتباره واجباً على الدولة وأوضح الأمثلة على ذلك دول مثل الإمارات والسعودية ومصر. صحيح أن هذه الدول كانت فاعلةً بقوةٍ في الحرب الباردة سابقاً، ولكن أولوياتها الوطنية وتحالفها العميق المنقذ للعالم العربي ومصالحها الكبرى دولاً وشعوباً تمنعها اليوم من الانخراط مجدداً في صراعاتٍ دوليةٍ لا تخدمها واقعاً ومستقبلاً.
الموقف السياسي لهذه الدول من الحرب الروسية الأوكرانية يتسم بواقعية حاذقةٍ وعقلانية محكمةٍ وقوةٍ في اتخاذ القرار دون مزايداتٍ أو شعاراتٍ، ومن يصل إلى «المريخ» ويعمل أن يكون الشرق الأوسط هو «أوروبا الجديدة» ويعيد تشكيل المنطقة وتحالفاتها وينسج علاقاتٍ دوليةٍ متعددةٍ ومتكاملة فهو يفترع طريقاً جديداً ستلتحق به العديد من دول العالم على المشهد الدولي يشبه ولا يطابق نماذج كانت قائمة إبان الحرب الباردة السابقة لبعض دول العالم. أخيراً، فالحقيقة هي أن في المنطقة تاريخاً جديداً يصنع، تصنعه دول عربية وقيادات واعية، دون انحيازٍ لجهةٍ ولا استعداء أخرى.
* كاتب سعودي