الموتة الأولى.. السلبية!
لا يعيش الإنسان مرتين، وكذلك ينبغي عليه ألا يسمح للموت أن يغتاله مرتين، الأولى بإرادته والثانية خارجة عنها. فالموتة الأولى، كما تشير العرب في أمثالها عن الشجرة إذا لم تجد ما تأكلها أكلت نفسها، فكيف ترى يأكل الإنسان نفسه؟!
حوار حول الإيجابية بعد أن ضج العالم ومل من نشر الأخبار السلبية التي تصدر عن يومياته من كل جانب. لقد وصل بالبعض إلى الحد الذي لا تطيق أذناه المزيد من الاستماع إلى السلب وكأن المتحدث هو مخترع السلبيات وليس الآخرون. ويغفل هذا الصنف بأنه يمارس فعل السلب دون أن يشعر بصده وبالتصدي لمن يحلل، أو يفسر بعض المشاكل المتناثرة والمتكاثرة في الأرض التي يريد البعض لو استطاع هجرها والهروب منها إلى أي كوكب آخر يتمتع بصفر مشاكل؛ فأنّٰا لهم ذلك؟
فما دمنا أحياء ففي الحياة هذا وذاك، الظواهر السلبية جزء منها، ودورنا الإيجابي السعي للتقليل منها أو حصرها في دائرة ضيقة. سئل مُصلح القرن الثاني الهجري، الحسن البصري الذي عاش معظم حياته بعيداً عن التصادم مع الحجاج، وما أدراك من هو صاحب مقولة: «إني أرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها»، ماذا قدمت للأمة طوال حياتك؟!
أجاب: ساهمت في عدم تراجعها أكثر. وهو عمل إيجابي أمام من يجعل سيفَه يسبق لسانه كما فعل صديقه سعيد بن جبير عندما قتله، ثم دعا عليه قبل أن يفارق الحياة فذهب الحجاج وملكه. قال أحدهم: لا يجدي النقد والتحليل والتعليل والتفسير نفعاً في هذا الوقت، وكم من الصحفيين والكُتاب تحدثوا كثيراً ولم يتغير شيء، فلا داعي إذاً لكل ذلك وليهتم كل واحد بنفسه ولا يؤذيها بهموم الآخرين، فما لنا ولهموم الآخرين.
وأذكر جيداً أنني في السنوات الأولى من دراستي الجامعية درست مادة «المسؤولية المجتمعية» كجزء من تحمل الفرد الهم المجتمعي وليس همه الشخصي فحسب، لأنه لا يعيش في جزيرة معزولة، فهو ركن رصين من هذا الكل المتين. وعلمنا ابن خلدون أن نعمِّر الإنسان قبل تعمير البنيان، ومن قبل كل ذلك وجهنا المصطفى إلى أن ندفع من نفوسنا جزءاً من حمل هموم الآخرين عندما قال «من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم»، وهذا لا يعني حصر الاهتمام بالمسلمين فقط، ولكن يشمل ذلك الآخرين بحكم المشترك الإنساني.
شاهدت فيلماً وثائقياً عن هرولة قوات الدفاع المدني في بريطانيا لإنقاذ قطة سقطت بإحدى فتحات المجاري في طريق عام، فكل أنواع السيارات والمعدات الخاصة بالحريق وغيره سخرت من أجل قطة اهتمت الدولة المعنية بإنقاذها، وإنْ كلفها أموالاً طائلة، وإنْ كانت قيمة القطة لا تساوي بضعة جنيهات استرلينية. وقطة أخرى سافرت من إحدى الدول العربية إلى إنجلترا فنالت جنسيتها ووجدت من يتبناها ويهتم بصحتها وفق أعلى معايير الطب البيطري.
والغريب أن مدعي الإيجابية لا يريد منك أن تهتم في النهاية بأي شيء قد يسبب إزعاجاً للنفس. إن تحمل مسؤولية همِّ الآخرين جزء رصين من ديننا، وخلق رفيع في تعاملاتنا الإنسانية، وقد حثنا المصطفى، محمد صلى الله عليه وسلم، على ذلك لبلوغ القمة في الإيجابية الحقة، وهو القائل في حِكم أحاديثه «من يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير ممن لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم» أو كما قال. فالعزلة النفسية أشد خطورة على الصحة النفسية للإنسان، وتفريغ الشحنات السلبية ومشاركتها مع الآخرين خير من الكبت الذاتي الذي يُولّد مشكلات لا حصر لها وأخطرها في تراكم الهموم التي تنتج في حال اختيار العزلة خوفاً، من التلوث بهموم الآخرين؛ فهذه سلبية أشد من سلبية اللامبالي.
* كاتب إماراتي