وقف صلاح عبد السلام المتهم في الأحداث الإرهابية التي هزت باريس في 13 نوفمبر 2015 في قفص الاتهام، مدافعاً عن الأفعال الشنيعة التي خلّفت عشرات الضحايا من الأبرياء.
اعترف الشاب البلجيكي ابن المهاجر المغربي بأنه لم يكن في يوم من الأيام مواظباً على الصلاة ولا على أي من الشعائر الدينية الأخرى، بل إن معرفته بالإسلام محدودة لا تتجاوز الإحساس بالانتماء.
وفي المقابل، عُرف صلاح عبد السلام لدى دوائر الشرطة بارتكاب السرقة وتعاطي المخدرات، وكان تحوله للتشدد والتطرف العنيف، حسب تصريحاته، ناتجاً عن جاذبية «دولة داعش» التي استقطبت عشرات الشباب الأوربيين الباحثين عن المغامرة في مسرح الشرق الأوسط. ليس صلاح عبد السلام حالةً فريدةً، بل هو صورة تتكرر كثيراً في أوساط الشباب الراديكالي المتطرف الذي تسبب في السنوات الأخيرة في الكثير من الجرائم الإرهابية داخل العالم الإسلام وفي الغرب. ومن الواضح أن أغلب هؤلاء الأفراد دخلوا إلى عالم الإرهاب من بوابة الجرائم العادية، وبحثوا في «الراديكالية الدينية» عن غطاء «مقدّس» لأبشع أنواع الجريمة.
ما أود الإشارة إليه هنا هو أن مسار صلاح عبد السلام وأضرابه يدخل في نطاق ما أطلقت عليه الفيلسوفة الألمانية الأميركية الشهيرة حنة ارندت «تفاهة الشر»، وهي عبارة صاغتها خلال تغطيتها في إسرائيل لمحاكمة «أدولف ايخمان» النازي سنة 1963. ما لاحظته «ارندت» هو أن ايخمان المسؤول عن أفظع الجرائم في العصر النازي، لم يظهر في شكل الوحش الهائج القوي، بل في صورة الموظف الصغير العادي الذي يمارس دورَه الطبيعي دون تفكير أو سؤال، بما يعني أن أخطر أنواع الشر قد يكمن في الأشياء الصغيرة والأمور التافهة.
لا يعني الأمر هنا التقليل من الفعل نفسه أو تبريره، بل إبراز خطر الشر الذي ينفث في قاع المجتمع ويأخذ شكلاً عادياً، ويعطل خاصية التفكير المتاح للبشر من أجل تقويم أفعالهم ومحاسبة ضمائرهم.
والواقع أن موضوع «الشر» طَرح دوماً معضلةً كبرى للفلاسفة، إلى حد أن كانط أرجَعَ أصل الشر إلى الإرادة الإنسانية الحرة التي تحتاج إلى قوة تدفعها للخير، أي تحد عملياً من سيولة اختيارها ولا تُبقي أمامَها إلا خياراً واحداً، بحيث يكون الشر هو الوجه الآخر لحرية الإنسان الأصلية.
ومن هنا اعتبر «بول ريكور» في ضوء قراءته لمفهوم «الشر الجذري» لدى كانط، أنه لا سبيل لفهم الشر أو تفسيره عقلياً، وإنما يتعين الوقوف ضده ومحاربته. الخلاصة من هذه التحديدات الفلسفية هي أن ما جرى في السنوات الأخيرة على نطاق واسع من ربط بين الإرهاب والخلفيات الدينية ليس سوى وهم غير دقيق. فالدراسات الميدانية التي قِيم بها حول المتطرفين الراديكاليين في الأعوام الماضية من لدن كبار علماء النفس والاجتماع (طلال أسد، فرهاد خسروخافار، أوليفييه روا، فتحي بن سلامة.. إلخ) بيَّنت بوضوح أن الدافع الديني وإن كان هو الغطاء المعلَن ليس هو الحاسم أو المؤثر في العمليات الإرهابية، التي تدخل في منطق الاحتفاء الهلاكي بالجسد وأساليب الاحتجاج العنيف على الهامشية والتفاهة والضعف.
وكما يقول أوليفييه روا فإن ما حدث ليس تحولَ الإسلام نفسه إلى الراديكالية وإنما تقمصَ الراديكالية الشعارَ الإسلامي بعد أن تقمَّصت في السابق شعارَ اليسار والتحرر الوطني. لا يعني الأمرُ إنكارَ وجود أيديولوجيا إسلامية متطرفة وثقافة دينية عنيفة تنتشر في الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي، وإنما يمكن القول إن هذه الوسائط الأيديولوجية والثقافية هي التي توفر المظلة لجرائم الإرهاب الراديكالي في تفاهتها الشريرة. في موريتانيا، نظمت قبل سنوات جولات من الحوار بين علماء في الشريعة وبعض السجناء الضالعين في عمليات إرهابية عنيفة.
وقد فوجئ العلماءُ المحاورون بضعف المستوى الديني والمعرفي للمتشددين المعتقلين الذين كان يتلخص تفكيرهم في وجوب رفع السلاح على الدولة ومحاربة غير المسلمين من منطلق فهم منحرف لأحكام الجهاد في الفقه الإسلامي. وقد أخبرني أحد هؤلاء العلماء أن الصورة التي ظهر فيها هذا الشباب المتطرف هي أقرب لصورة المجرم العادي الذي لا يمكنه تفسير الدوافع الحقيقية لأفعاله الشنيعة، وقد وجد في الشعارات الدينية العامة مسوغاً واهياً لتبرير صنيعه، ومن هنا صعوبة إقناع هذا الصنف من المجرمين الذي يفتقد للحد الأدنى من المعرفة والأهلية الأخلاقية من منظور الأدلة الشرعية القطعية والبديهية.
*أكاديمي موريتاني