كتبت في هذه الصفحة يوم 16 يناير الماضي مقالةً بعنوان «تأملات في الأزمة الغربية الروسية حول أوكرانيا» عن الجدل المحتدم بين الدوائر الغربية وروسيا حول غزو أوكرانيا والاتهام الموجَّه لروسيا بأنها تنوي غزو أوكرانيا رغم النفي الرسمي الروسي المتكرر، بل والرد بأن الأمن الروسي هو المعرض للخطر بسبب الخطط المحتملة لحلف الناتو في أوكرانيا، وانتهيت إلى أن روسيا بالتأكيد تمثل حالياً قوة «مراجِعة» في المنطقة، بمعنى أنها ترى أن الأوضاع المحيطة بها تتناقض واعتبارات الأمن الروسي، لكنها ليست من عدم الرشادة بحيث تلجأ لغزو أوكرانيا بينما تستطيع اتباع وسائل أكثر نعومة مع أنها لا تقل حسماً كما فعلت في أوكرانيا عام 2014 بضم القرم ودعم الحركات الانفصالية في شرق أوكرانيا. وكانت قد اتبعت السلوك ذاته تجاه جورجيا بخصوص انفصال أوسيتيا الجنوبية في عام 2008.
وقد استمر التصعيد الأميركي والبريطاني بصفة خاصة على نفس الوتيرة، وتكرر الحديث عن غزو قادم، مع أن بعض الأصوات العاقلة بدأت تُسمع من مسؤولين غربيين، كما في تصريح قائد البحرية الألمانية الذي وصف في اجتماع لمركز أبحاث في نيودلهي، بتاريخ 23 يناير الماضي، فكرةَ الغزو بأنها حماقة، مضيفاً أن الرئيس الروسي يستحق الاحترام. وعلى الرغم من أنه أُجبر على الاستقالة بعد 24 ساعة من إدلائه بهذا التصريح فإن الواقعة تشير إلى اختلاف النهج الأوروبي، وبالذات الألماني الفرنسي، في إدارة الأزمة، وذلك بدليل المفاوضات الروسية الأوكرانية التي عُقدت في باريس منذ أسبوع بوساطة فرنسية ألمانية. صحيح أنها لم تكن سهلة، لكن الأطراف الأربعة اتفقت على عقد جولة ثانية في برلين في غضون أسبوعين، وأعلن مبعوث الكريملين الخاص بالنزاع أنه على الرغم من وجود اختلافات فإن الهدنة يجب أن تستمر وأنه يجب الحفاظ على وقف إطلاق النار بين الجيش الأوكراني والانفصاليين في شرق أوكرانيا. وكان ماكرون وميركل وبوتين قد بحثوا الأزمة في مكالمة هاتفية في أكتوبر الماضي، بما يؤكد اختلاف النهج الألماني الفرنسي عن النهج الأميركي البريطاني.
وقد بدت النغمة العاقلة وكأنها وصلت إلى أعلى مستوى في أوكرانيا، إذ ذكر مسؤول أوكراني رفيع أن المكالمة الأخيرة بين الرئيسين الأميركي والأوكراني لم تسر على ما يُرام، بسبب الاختلاف بينهما حول مستويات خطورة الهجوم الروسي المحتمل، إذ قال بايدن أثناء المكالمة إنه قد يكون وشيكاً، وبالمقابل قال الرئيس الأوكراني إن التهديد الروسي لا يزال خطيراً لكنه غامض وليس مؤكداً. ووفقاً لهذا المسؤول لم يوافق بايدن على هذا التقييم، وأصر على أن الغزو أصبح شبه مؤكد في وقت من فبراير الجاري، بينما حث الرئيس الأوكراني نظيره الأميركي على التهدئة محذِّراً من التأثير الاقتصادي السلبي لأجواء الذعر، وقال إن الاستخبارات الأوكرانية ترى التهديد بشكل مختلف، وأشار إلى انفراجة في المفاوضات مع روسيا في باريس وإلى أنه يأمل في الحفاظ على اتفاق وقف إطلاق النار مع المتمردين في شرق أوكرانيا. وعلى الرغم من أن المتحدثة باسم مجلس الأمن القومي الأميركي شككت في هذه التسريبات، وقالت إن المصادر المجهولة تسرب الأكاذيب، فإنها لم تنف وجود خلاف في الرؤية بين الرئيسين، كما أن تحذيرات الرئيس الأوكراني من إثارة الذعر بين مواطنيه وآثاره السلبية تكررت علناً، إذ دعا شعبه إلى الهدوء وعدم الذعر وتصديق الإشاعات. بل تتحدث بعض التقارير عن اتجاه داخل أوكرانيا متفهم للسياسة الروسية وهواجسها الأمنية فضلاً عن نظرته الواقعية بسبب الخلل الفادح في ميزان القوى بين روسيا وأوكرانيا ونتائج المواجهات السابقة التي فقدت فيها أوكرانيا شبه جزيرة القرم ودونباس.. فهل يطغى صوت العقلاء على دعاة التصعيد؟
أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة