يبدو أن الاقتصاد والتجارة العالميين مقبلان على تغيرات كبيرة في عام 2022، وذلك رغم تداعيات فيروس «كوفيد-19»، حيث أشرنا سابقاً إلى بعض هذه التغيرات خليجياً وإقليمياً وعالمياً، إلا أن أحد أبرز هذه التطورات يكمن في دخول اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة حيّز التنفيذ مع بداية العام الجاري، وهي ليست، كأي اتفاقية، إذ أنها تعتبر أكبر اتفاقية للتجارة الحرة في العالم.
وعملياً تقود الصين، بحكم قوتها الاقتصادية وحجم تجارتها، هذه المجموعة والتي تضم، بالإضافة إلى الصين نفسها، كلاً من اليابان وأستراليا ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية، إلى جانب عشرة بلدان أعضاء في مجموعة رابطة دول جنوب شرق آسيا «الآسيان»، والتي تضم بدورها دولاً مهمة تجارياً واقتصادياً، مثل سنغافورة وإندونيسيا وماليزيا والفلبين، حيث تستحوذ البلدان الخمسة عشر الأعضاء في الاتفاقية على 30% من الناتج المحلي الإجمالي للعالم وعلى نفس النسبة من التجارة العالمية.
وتشمل الاتفاقية 90% من تجارة السلع التي ستُعفى من الرسوم الجمركية تماماً، مما سيؤدي إلى ارتفاع كبير للتجارة البينية بين الدول الأعضاء بفضل ارتفاع القدرة التنافسية للمنتوجات الوطنية لهذه البلدان التي ستتوفر لها أسواق هائلة، إذ سيؤدي ذلك بدوره إلى نمو الإنتاج المحلي لكل دولة وزيادة معدلات النمو.
مرة أخرى يلاحظ بأن هذه المجموعة تضم دولاً متناقضة وتتنازع حول الحدود البحرية والجزر الحدودية، كما أن أستراليا دخلت في حلف مع الولايات المتحدة وبريطانيا للتصدي لطموحات الصين التي تصفها بالتوسعية، وكذلك عملت اليابان، إلا أن كل ذلك لم يوقف التعاون الاقتصادي والتجاري ووصوله إلى مستويات متقدمة، مما يعني ترجيح المصالح الاقتصادية على غيرها من التناقضات والخلافات. وعلى سبيل المثال، يزداد اعتماد الصين المتعطشة لمصادر الطاقة على الغاز الأسترالي، كما أن السوق الأسترالية تعتمد في العديد من احتياجاتها على السلع الصينية.
من جانب آخر ستترتب على تنفيذ بنود هذه الاتفاقية تداعياتٌ على التجارة الدولية، وذلك بحكم الثقل الاقتصادي والتجاري للدول المنضوية تحتها، إذ سيشمل ذلك تجارةَ المواد البترولية المصنّعة، وتلك المعتمدة على الغاز الطبيعي كمادة أولية، وتجارة المعادن، علماً بأن أستراليا تحولت إلى منافس قوي للدول الخليجية في تجارة هذه السلع، وهو ما سيمنح بضائعها أفضليات وقدرات تنافسية في الأسواق الآسيوية الرئيسية، كالصين واليابان وكوريا الجنوبية.
وبالنظر لوجود اتفاقيات تجارة حرة عالمية أخرى مهمة أيضاً، إضافة إلى سعي بريطانيا لعقد اتفاقيات للتجارة الحرة مع العديد من بلدان العالم المؤثرة في التجارة الدولية، وذلك بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، فإن الحاجة تتزايد لإعادة هندسة وبناء العلاقات التجارية بين مختلف الدول، بما فيها الدول العربية، ودول مجلس التعاون الخليجي بشكل خاص. فهذه الدول مقْدمة على نمو متسارع ونقلة تنموية، مما يتطلب البحث عن أسواق جديدة وكبيرة لمنتجاتها من مختلف السلع، وخصوصاً البتروكيماويات والأسمدة والألمنيوم والمنتجات البترولية.. فالتحديات التنافسية قادمة وقوية، كما يتضح من التطورات التجارية الجارية حالياً.
وفي هذا الجانب يمكن العمل ضمن اتجاهين، يكمن الأول في الإسراع بتوقيع اتفاقيات للتجارة الحرة مع مراكز الثقل الاقتصادي في العالم، كالصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والهند وبريطانيا، علماً، بأن بعضها يسعى منذ فترة لعقد مثل هذه الاتفاقيات مع دول مجلس التعاون الخليجي، إلا أن الأمور تسير ببطء في هذا الاتجاه، وذلك على الرغم من أن مثل هذه الاتفاقية أُبرمت مؤخراً بين دول المجلس وباكستان.
مجمل هذه التطورات تشير بوضوح إلى أن التبادل التجاري العالمي سيشهد منافسة قوية في السنوات القادمة، ستترك الكثير من التداعيات التي تمكن الاستفادة من إيجابياتها وتجنّب بعض السلبيات التي ستترتب عليها، وذلك بالعمل على التحضير لها من خلال التعاون البيني بين دول المجلس من جهة وعقد شراكات تجارية مع الدول الأخرى من جهة ثانية.


خبير ومستشار اقتصادي