مما لا شك فيه أن الوباء الحالي يعتبر حدثاً لم تشهد البشرية له مثيلاً، منذ أكثر من مئة عام على الأقل. فبخلاف ملايين الوفيات، ومئات ملايين الإصابات، والتسبب في أسوأ أزمة اقتصادية منذ ثلاثينيات القرن الماضي، فقد دفع الوباء بنظم الرعاية الصحية في مختلف دول العالم إلى شفا الانهيار، وإلى خسارة جزء مما تم إنجازه خلال العقدين الماضيين على صعيد تحقيق هدف الرعاية الصحية الشاملة لجميع أفراد المجتمع.
هذا التراجع المؤسف في إنجازات الصحة العامة من المنظور الدولي، يتجسد في حقيقة أن 23 مليون طفل حول العالم خلال عام 2020، فاتتهم التطعيمات الأساسية الروتينية. وهو ما وضعهم تحت طائلة خطر متزايد من الإصابة بأمراض الطفولة، مثل الدفتيريا والحصبة وشلل الأطفال والكوليرا، وهي الأمراض التي يمكنها -إن لم تقتلهم- أن تسبب لهم إعاقات شديدة مدى الحياة. وعلى صعيد الأمراض المزمنة والخطيرة، وحسب الإحصائيات خلال الفترة الممتدة من يونيو إلى أكتوبر 2021، فقد عانت أكثر من نصف دول العالم من عرقلة وتعطل في تقديم خدمات الرعاية الصحية لمرضى السكري، ومرضى ارتفاع ضغط الدم، والمصابين بالأمراض السرطانية. ولذا يرى البعض أنه في الوقت الذي تتركز فيه أنظار العالم على عدد الإصابات والوفيات اليومية الناتجة عن فيروس كورونا، يستعر في الخلفية وباء آخر لم يُحصَ بعدُ عددُ ضحاياه.
ومما زاد الطين بلةً أن التراجع الذي حدث على صعيد التغطية الصحية الشاملة بسبب الوباء، جاء على خلفية فشل دولي أساساً في تحقيق هدف زيادة أعداد بني البشر المتمتعين بمثل هذه التغطية بمقدار مليار شخص، وهو الفشل الذي دفع بنصف مليار إنسان إلى ما تحت خط الفقر، نتيجة تحملهم نفقات ومصاريف الرعاية الصحية لإصابتهم بمرض ما. هذا الوضع يتوقع أن يزداد سوءاً خلال الفترة القادمة بسبب الوباء، ولا طريق للخروج منه أو عكس مساره إلا من خلال مضاعفة الجهود وتوفير الدعم المالي الكافي لتحقيق غاية «الصحة للجميع».
ويمكن بلوغ تلك الغاية إذا ما وظفنا الدروس المستفادة من جائحة «كوفيد-19»، وخصوصاً محدودية الإمكانيات والقدرات لنظم الرعاية الصحية في شكلها الحالي على التعامل مع الأوبئة العالمية، وضرورة إعادة بنائها وهندستها وتنظيمها بشكل يجعلها قادرة على تحقيق هدف التغطية الصحية الشاملة، وبلوغ حالة من الأمن الصحي بوجه عام.. وذلك من خلال زيادة الاستثمار من قبل دول العالم قاطبةً في الرعاية الصحية الأولية، والبنية الصحية التحتية، وتوفير الأدوية والعقاقير وباقي المستلزمات الطبية، مع دعم وتقوية آليات الحماية الاجتماعية.
كاتب متخصص في القضايا الصحية والعلمية