المثقف في مواجهة الأمية المعرفية
كتب أحد المفكرين على توتير (حين اختُرع جوجل تساوى الأمي مع المثقف). توقفتُ كثيراً أمام تلك المقولة ومدى صحتها، وهل يمكن بمنتهى البساطة أن يتحول الأمي إلى مثقف، حتى لو جزئياً حتى يتساوى مع المثقف؟ وهل هذا عيب أن يتحول الأمي إلى مثقف؟ أليست هذه هي الغاية التي نسعى إليها أن يتحول الجميع إلى مثقفين؟ تساؤلات كثيرة ظلت تطرق بشدة على ذهني، وحاولت ترويضها بالبحث عن الإجابات.
الأمي بمعناه اللغوي المتعارف عليه أنه هو من لا يعرف القراءة والكتابة. هذا التعريف يحتاج إلى إعادة صياغة ليتلاءم مع العصر، فأضيف عليه أنه من لا يمتلك القدر من المعرفة يمكنه من التعامل مع شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. فالأمية بمعناها التقليدي في انحسار وسيأتي يوم تصبح نسبة الأمية طبقاً لهذا التعريف صفراً. لذلك الأمية ستصبح بمنتهى البساطة هي عدم المعرفة أو انحسار المعارف الأولية التي تساعد في فهم الإنسان للحياة والمجتمع والفضاء الافتراضي المتوسع يوماً وراء الآخر. تنوعت التعريفات والمفاهيم للمثقف طبقا للزاوية التي من خلالها ينظر المُعرف للمثقف، والمجال لا يتسع لاستعراض كل تلك التعريفات والمفاهيم.
ومن زاويتي أجد أن المثقف هو الشخص الباحث عن المعرفة، والذي يحرص على زيادة مخزونه المعرفي من خلال القراءات والتجارب المعرفية التي يخوضها. من هذه الزاوية يمكن ان أقسم المثقف إلى نمطين رئيسين وهما: المثقف التابع والمثقف المبدع. المثقف التابع يمتلك مخزوناً معرفياً، ولكن لا يمتلك القدرة على خلق سياق فكري خاص به، لا يستطيع أن يضع تصوراته الخاصة للقضايا والمشكلات التي يواجها. فهو يبحث في ذلك المخزون عن رؤى وأفكار الآخرين الذي خزن معارفهم في ذهنه، ويعيد طرحها فيما يشبه جهاز التسجيل، من دون أن تكون له رؤية أو بصمة شخصية على الأفكار التي يطرحها. ومنهم نمط أحادي وآخر متعدد.
أما النمط الأحادي فهو يؤمن بأفكار أحدهم ويظل تابعاً له، والمتعدد هو لا يؤمن بفكر شخص معين، ولكن يقوم بعملية تجميع وتوفيق للمعارف التي يحملها ويضعها في إطار غير متناسق ومشوه. أما المثقف المبدع فهو مثقف قادر على خلق سياق خاص به من خلال إعادة إنتاج المعارف والأفكار، التي يحملها في مخزونه المعرفي، فتلك المعارف هي خامات إنتاج لفكره الخاص وعقله بمثابة مصنع لإنتاج الأفكار. في مقال سابق لي بعنوان «الفجوة بين المثقف والمجتمع»، كنت قد أشرت إلى أن دور المثقف الحقيقي أن يُغيّر توجهات الناس، وأن يرفع من وعي المجتمع. وعطفاً على تلك الرؤية، فإن المجتمع يحتاج إلى المثقف المبدع الذي يتعامل مع المعرفة على أنها وسيلة لإنتاج معارف وأفكار جديدة، توائم طبيعة المجتمع، وتعمل على تغذيته بالوعي.
وبالعودة إلى المقولة التي بدأت بها المقال، فإن هذا الأُميّ الذي ذهب إلى جوجل وشبكات التواصل الاجتماعي نحييه ونشجعه، لأنه يحاول أن يبحث عن المعرفة، وتلك الخطوة الأولى التي نتحصل فيها على مثقف. وهنا يأتي دور المثقف المبدع وكل منوط بالشأن التثقيفي في المجتمع في احتواء هؤلاء الأميين المعرفيين وتغذية رغبتهم وتطويرها وتحويلهم قدر الإمكان لمثقفين مبدعين. وحين نؤسس لمسيرة جديدة من حياة دولة الإمارات العربية المتحدة فإننا يجب أن ننظر بشمولية أكثر اتساعاً وندرك أن التناغم بين الحركة الاقتصادية والعلمية والمعرفية والفكرية والمجتمعية هو قلب العمل الكامل للتطور وتحقيق الاستراتيجيات المستقبلية. ولذلك دور المثقف المبدع دور مهم جداً في تحقيق التطور في كل المجالات. لذلك الأمية المعرفية تتم مواجهتها بمثقف مبدع واعٍ هذا لا يتحقق إلا بالحرص على تنشئة أجيال جديدة من خلال التعليم وتنمية المهارات العقلية، اعتماداً على التفكير بصورة غير نمطية وبناء مهارات التفكير الناقد، كما أشرت أكثر من مرة في مقالاتي السابقة.
د. شما بنت محمد بن خالد آل نهيان*
*أستاذ زائر بكلية التقنية العليا للبنات، وباحثة إماراتية في الأمن الاجتماعي والثقافي.