قابلية الاستنزاف المتماثل
خلال الحرب الباردة احتكم المعسكران لمبدأ «تماثل قابلية الدمار المؤكد Mutually Assured Destruction»، وقد كان لذلك المبدأ حسناته في احتواء الأزمات المباشرة (أزمة الصواريخ الكوبية)، والتي صاحبها أكبر استعراض للدبلوماسية الحرجة في إدارة الأزمات من الطرفين (الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي).
ورغم تبعات الحرب الباردة على مناطق كبرى من العالم، إلا أنها لم تمثل تهديداً شاملاً للاستقرار الدولي كما هو حاصل نتيجة التزاحم الخشن بين الشرق (الصين والاتحاد الروسي)، مقابل الولايات المتحدة، واحتكام المعسكرين لمبدأ (الاستنزاف الكلي للخصم) في حين أن ما تحقق هو بروز مبدأ «قابلية الاستنزاف المتماثل Mutually Assured Attrition» على حساب الاستقرار الدولي، وثانياً أن قابلية استنزاف روسيا اقتصادياً، كما كان حال الاتحاد السوفييتي، غير وارد استراتيجياً نتيجة للتكافل الاستراتيجي Strategic Inter-dependence بين الاتحاد الروسي والصين.
المسرح السوري مثّل أبشع صور الاحتكام لفرضية الاستنفاد الكلي للخصم، أو إدارة الأزمات سياسياً ضمن مفهوم التوازنات القابلة للاستدامة. فجميع الأطراف المنخرطة في هذا المسرح رفضت الاعتراف بمخاطر استدامة «التصعيد الخشن» بين المعسكرين على قابلية العودة لاستقرار المنطقة رغم كُلفة ذلك أخلاقياً، أي بشرياً وليس سياسياً فقط. التحديات التي تواجهها الولايات المتحدة خارجياً (القرم/ البلطيق/ الجرف الباسيفيكي/ جنوب بحر الصين/ المحيط الهندي/ حوض المتوسط/ بر أفريقيا/ الشرق الأوسط) معطوفاً على ذلك تحديات التعافي الاقتصادي والتوازن المفقود في استعادة دورها القيادي معنوياً وليس سياسياً فقط للعالم الحر.
القابلية Capacity ليس ما ينقص الولايات المتحدة، بل مراجعة فلسفة القيادة بالشراكة الحقيقية مع حلفائها، بدل الانغماس أكثر في الانفراد بالقرارات الاستراتيجية.
الأزمة الأوكرانية تمثل أكبر تهديد للاستقرار الدولي بشكل غير مسبوق ويتجاوز حرب البلقان، ويقارب أقصى حالات «قرب الهاوية Brinkmanship» منذ أزمة الصواريخ الكوبية، أولاً لهشاشة حالة الاستقرار الاجتماعي في أجزاء كبرى من قارات العالم، إما نتيجة لعدم الاستقرار السياسي، أو نتيجة لجائحة كوفيد-19 وتحديات التعافي الاقتصادي الدولي.
مراجعة قابلية الاستنزاف الكلي للخصم يجب أن تُراجع من قبل واشنطن، أو أن تُراجع أدواتها التطبيقية وكذلك جدواها للوصول لتماثل المفاهيم مع حلفائها، وذلك بقصد تخليق سياسات أكثر صلابة في مواجهة التحديات المشتركة إقليمياً واستراتيجياً. (إنه الاقتصاد يا غبي)، تلك مقوله يفضل الأميركان استخدامها كثيراً، ولربما بات من الواجب أن يراجع الأميركان سياساتهم الخارجية انطلاقاً من تلك الحكمة والانفتاح استراتيجياً على حلفائها.
* كاتب بحريني