عُقد يوم الجمعة الماضي بالعاصمة الفرنسية مؤتمر لمواصلة جهود التوصل إلى تسوية للصراع الدائر في ليبيا، وهو واحد من سلسلة من مؤتمرات شهدتها مدن أوربية كان آخرها مؤتمرَا برلين في العامين الحالي والسابق، وقد سعت هذه المؤتمرات للاتفاق على أسس تحقيق التسوية المنشودة، سواء أكانت تتعلق بالداخل الليبي أم بمحيطه الإقليمي والعالمي. واعتباراً من العام الماضي تحقق بعض الخطوات المهمة التي أشاعت التفاؤل بإمكان التقدم نحو تسوية للصراع أهمها التوصل إلى وقف لإطلاق النار وخارطة طريق سياسية أفرزت حكومةَ وحدة وطنية ومجلساً رئاسياً جديدين واتفاقاً على إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية الشهر القادم. غير أن بعض الغيوم ظلت تعكر سماء التسوية المرتقبة، وأهمها وجود القوات الأجنبية والمرتزقة على الأراضي الليبية، وانفلات المليشيات في غربها، والخلافات السياسية المتزايدة بين القوى والمؤسسات الليبية، كما ظهر في صدامات الميليشيات المتكررة في الغرب الليبي، وسحب البرلمان الثقةَ من حكومة الوحدة الوطنية وعدم اعتدادها بقراره، وأخيراً وليس آخراً الخلاف داخل المؤسسة التنفيذية ذاتها بين المجلس الرئاسي الذي أوقف وزيرة الخارجية عن العمل وحكومة الوحدة الوطنية التي رفضت قرار المجلس، فأين مؤتمر باريس من هذه المشكلات؟
أتى البيان الختامي للمؤتمر بكل ما هو إيجابي في هذا الصدد من التأكيد على احترام سيادة ليبيا ووحدة أراضيها ورفض التدخلات الخارجية في شؤونها، وتأكيد الالتزام بوقف إطلاق النار والعملية السياسية وبالذات إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية في موعدها ونقل السلطة بناءً على نتائجها، وتحقيق المصالحة الوطنية ودعم خطة العمل الشاملة لسحب المرتزقة والمقاتلين الأجانب والقوات الأجنبية والتي أعدتها اللجنة العسكرية المشتركة (5+5)، ودعم بعثة الأمم المتحدة، بل لقد تفاءل البيان بإتمام الانتخابات فحث البرلمان المنتخب على صياغة دستور دائم يحظى بموافقة شعبية، ويضمن تمثيلاً نسائياً حقيقياً، لكن هذا كله ليس بجديد على لغة المؤتمرات الدولية السابقة بشأن ليبيا، وإنما الجديد المنتظر هو إجراءات فعلية تواجه المخاطر على مسار التسوية السياسية وأهم خطواته إجراء الانتخابات التي يُفترض أن يحل موعدها بعد خمسة أسابيع من الآن، فما الجديد الذي أتى به مؤتمر باريس في هذا الصدد؟ يتلخص هذا الجديد في أمرين تضمنهما بيانه الختامي، أولهما تحذير الأفراد والكيانات داخل ليبيا وخارجها التي قد تحاول عرقلة العملية الانتخابية وعملية الانتقال السياسي أو تقويضهما أو التلاعب بهما أو تزويرهما من الخضوع للمساءلة في هذه الحالة، وأنهم قد يُدرجون في قائمة لجنة الجزاءات التابعة للأمم المتحدة بموجب قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، والأمر الثاني مطالبة الدول الأعضاء في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الإقليمية بتوفير مراقبين للانتخابات بالتنسيق مع السلطات الليبية.
وثمة ملاحظتان على هذا الجديد تُظهران عدم كفايته لحماية مسار التسوية السياسية في ليبيا، فأولا لن يكون لتهديد المؤتمر بفرض جزاءات على معرقلي العملية السياسية أي قيمة ما لم تُفرض بقرار من مجلس الأمن، وكلنا يعلم أن مصالح أعضائه الدائمين قد تعرقل فرض هذه الجزاءات، كما أن خبرة توقيع العقوبات الدولية تُظهر أنها إما أن تكون هينة لا تكفي لردع المخالفين وإما ألا تُنَفذ أصلاً ناهيك بأن المعرقلين قد يكونوا غير محددين، وثانياً من الواضح أن تعقد الموقف الداخلي في ليبيا يتطلب ما هو أكثر من المراقبين لضمان سلامة الانتخابات، وحتى لو كان وجود مراقبين يكفي فإن مطالبة المؤتمر للدول بتوفيرهم جاءت عامة وغير ملزمة ويُفترض على الأقل أن يصدر بها قرار من مجلس الأمن. ويعني ما سبق أن الانتخابات الليبية المأمولة ما زالت بحاجة إلى ضمانات حقيقية.
أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة