الحياة حبلى بالمفاجآت. ولكن المفاجآت أنواع مختلفة، فهناك مفاجآت وهناك مفاجآت. ما أقصده هو أنه في معظم الأحيان عندما يحدث شيءٌ لم تكن تتوقعه، فإنك سرعان ما تدرك أنه شيء كان يمكنك استشرافه، بل وربما كان ينبغي لك توقعه، على الأقل كإمكانية. وبالطبع، فإن تأخيرات مراقبة الحركة الجوية كانت السبب في أن طائرة المواصلة فاتتني. أو حتى أستخدم مثالاً مقتبساً من المجال الاقتصادي، فإن قلة قليلة من الناس توقعت أزمة 2008 المالية، ولكن عندما وقعت أدرك الاقتصاديون أنها تنسجم بشكل جيد مع أطرهم النظرية وأنساقهم التاريخية.
غير أنه في بعض الأحيان تتخذ الأحداث منعطفات تجعلك تتساءل حول ما الذي يجري بعد الانكشاف الكبير.
في الوقت الراهن، يشهد الاقتصاد الأميركي موجة تضخم تقليدية من الطراز القديم، حيث الكثير من المال يطارد القليل من السلع. ولكن هناك حقاً نوعان من قيود العرض، وبعضها أكثر قابلية للفهم من البعض الآخر.
الكثيرون لم يتوقعوا مشاكل سلاسل التوريد التي باتت شهيرة الآن - السفن التي تنتظر دورها في الرسو في الميناء وتفريغ حمولتها، ومواقف السيارات المكدسة بالحاويات، والمستودعات المملوءة عن آخرها التي لم يعد فيها مكان فارغ. غير أنه عندما بدأت تلك المشاكل في الحدوث، بدت معقولة ومنطقية. فالمستهلكون الذين كانوا متخوفين من شراء بعض الخدمات - مثل تناول الطعام في المطاعم أو الذهاب إلى القاعات الرياضية - استعاضوا عن ذلك بشراء الكثير من الأشياء، والنظام اللوجيستي الموجود لم يستطع مواكبة الطلب.
ومن جهة أخرى، فإن «موجة الاستقالات الكبيرة» - تؤدي إلى ظهور ما يشبه نقصاً في العمالة رغم أن التشغيل ما زال دون المستوى الذي كان سائداً قبل الوباء بـ5 ملايين تقريباً، بل ودون اتجاهه السابق - غامضة نوعاً ما.
فخلافاً لـ«فجوة المهارات» التي يُشار إليها لشرح البطالة المستمرة بعد أزمة 2008، يبدو نقص العمالة حقيقياً هذه المرة. فالعمال يستقيلون بمعدلات قياسية، في مؤشر على أنهم يشعرون بالثقة بشأن إيجاد وظائف جديدة. والأجور تنمو بمعدلات ترتبط عادة بذروة الطفرات الاقتصادية. وبالتالي، فمن الواضح أن العمال يشعرون بالقوة، وإن كان عدد الأميركيين العاملين أقل بكثير من الماضي. ولكن لماذا؟
في وقت سابق من هذا العام، كان الكثيرون يشددون على أن مزايا البطالة المحسَّنة تقلِّل من الحوافز لقبول وظائف. ولكن تلك المزايا والتعويضات الإضافية أزيلت في العديد من الولايات اعتباراً من شهر يونيو الماضي، وعلى الصعيد الوطني في أوائل شهر سبتمبر، ويبدو أن هذا القطع لم يكن له أي تأثير على التشغيل أو مشاركة القوة العاملة.
وهناك قصة أخرى، من الصعب أكثر تفنيدها، تقول إن المساعدات الكبيرة التي تلقّتها الأسر خلال «الجائحة» جعلت الكثيرين في حالة يسر مادي، ما منحهم المجال المالي ليكونوا أكثر انتقائية بخصوص وظيفتهم المقبلة.
ثم هناك قصة أقل تفاؤلاً تقول إن بعض المشغِّلين ما زالوا متخوفين من العودة إلى العمل و/أو أن الكثيرين لا يستطيعون العودة إلى العمل لأن ترتيبات رعاية أطفالهم ما زالت مضطربة أو معطَّلة.
غير أن هناك إمكانية واحدة إضافية على الأقل: أن تجربة الجائحة قد تكون دفعت الكثير من العمال إلى استكشاف فرصٍ ما كانوا ليفكروا فيها في السابق.
كنتُ أفكر بشكل فضفاض في هذا الموضوع، ولكن «أريندراجيت دوب»، الذي كان واحداً من المتخصصين في اقتصاد العمل الذين أقصدهم خلال هذه «الجائحة»، عبّر عن ذلك بشكل واضح جداً مؤخراً. فكما يقول «دوب»، هناك أدلة معتبرة على أن «العمال في الوظائف متدنية الأجر كانوا تاريخياً يقللون من شأن مدى سوء وظائفهم». ولكن عندما يُجبرهم شيء ما على الخروج عن سير حياتهم المألوف - مثل وباء قاتل مثلاً - فإنهم يدركون ما الذي كانوا يتحملونه. ولأنهم يستطيعون التعلم من تجارب العمال الآخرين، فإنه قد يكون هناك «مضاعف استقالات» يؤدي فيه قرار بعض العمال الاستقالة إلى دفع عمال آخرين إلى أن يحذوا حذوهم.
تعجبني هذه القصة، جزئياً لأنها تنسجم مع اكتشافات الاقتصاد السلوكي الرئيسية - أن لدى الناس تحيزاً قوياً للوضع القائم. أي أنهم يميلون إلى الاستمرار في القيام بما كانوا يقومون به حتى عندما قد تكون هناك بدائل أحسن بكثير.
وعليه، أستطيع الاعتقاد بسهولة بأنه كان هناك العديد من العمال الذين كان ينبغي لهم أن يستقيلوا ويتركوا وظائفهم السيئة في 2019 مثلاً، ولكنهم لم يفعلوا لأنهم لم يكونوا يفكرون حقا في أي بدائل. كما أنه من الممكن أن تكون الاضطرابات الناجمة عن الجائحة قد أدت إلى مراجعة وإعادة نظر كبرى.
بالطبع، نحن لا نعرف هذا. ولكن إذا كان ذلك جزءا مما يحدث، فإنه شيء جيد في الواقع وبارقة نور وسط عتمة «كوفيد - 19» الدامسة.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»
Canonical URL: https://www.nytimes.com/2021/11/05/opinion/great-resignation-quit-job.html