الواقع التاريخي للقضاة الثلاثة
لا يريد بالتراث سوءاً من يدعو إلى عدم الاكتفاء بالقراءة الظاهرية لنصوصه بمعزل عن واقعها التاريخي، إذ أنّ محاولة تفعيلها في واقع آخر، من دون إعمال العقل فيها من جديد، يؤدي بنا إلى مأزقٍ كالذي يُوقع بعض القانونيين أنفسهم فيه.
فثمة حديث نبوي يتردّد في أوساط القانونيين، سواءً كانوا طلبة قانون، أو خريجي قانون، وهو الحديث الذي يصنّف القضاة إلى ثلاثة، واحدٌ في الجنة، وهو الذي عرف الحق فقضى به، واثنانِ في النار، أحدهما عرف الحق فلم يقضِ به، والآخر لم يعرف الحق، فقضى للناس على جهل. وسرّ اهتمام القانونيين بذلك الحديث يكمن في أنه يوضّح المقام الخطير لقمة الهرم الوظيفي في مجال تخصصهم، ألا وهو منصب القاضي، ليُلقي ذلك الوعيد بظلاله على اختياراتهم، فإذا كان طموح طلبة الهندسة العمل مهندسين، فليس طموح كل طلبة القانون الجلوس خلف منصة القضاء.
وهذا التخوّف في رأيي ناشئٌ من حرفية الفهم للنص النبوي، ذلك أنّ دور القاضي في التوصّل إلى الحق، والحكم به، اختلف تماماً عن العبء الذي كان يثقل كاهل قضاة الأزمنة الماضية. لننظر في أمر القاضي الجنائي على سبيل المثال، فهو يجد على مكتبه ملف قضية اكتمل على أيدي أشخاص كثرٌ قبله قطعوا بأعمالهم شوطاً كبيراً في العقيدة التي سيكوّنها سواءٌ في الإدانة أو البراءة، فثمة شكوى مكتوبة قدّمها مجني عليه، وهناك شاهدٌ أدلى بشهادته، وثمة استجواباتٌ أشرف عليها ضابط شرطة، وطابور تشخيص، وكاميرات، وتسجيلات، ومضبوطات، وهناك تحقيقاتٌ أجراها وكيل نيابة، وربما استعان الأخير بمترجم إذا كان المتهم أو الشاهد يجهل اللغة الرسمية، وثمة تقرير أعدّه خبير فني، ليكون الحكم الذي يصدره القاضي مجرد نافذة على الحق الذي شيّد بُنيانه آخرون مِن قبله. ويكفي معرفة الدور شبه الحاسم للخبير الفني في التوصّل إلى الحق في الدعوى، وهو دورٌ كبير في تحديد قرار القاضي، بحيث يصعب عليه الحكم على خلاف رأي الخبير المتخصص، فالطبيب الشرعي هو الذي يحدّد سبب الوفاة، وساعتها، وطريقتها.
وخبير الحرائق هو الذي يقرّر سبب نشوء الحريق، وعمّا إذا كان اشتعال النار متعمداً أم كان نتيجة خطأ، وقد يعزي سبب الحريق إلى خلل فني أو عيب مصنعي. وخبير المستندات هو الذي يحدد إن كان الإمضاء مزوّراً أم لا. وخبير الأصوات هو الذي يحسم إن كان الصوت في التسجيل صوت المتهم أم لا.
وخبير البصمات هو الذي يؤكد أنّ البصمات المرفوعة من السكين تعود إلى هذا أو ذاك. ونحن نعلم أنّ تصنيف القضاة إنما كان في زمنٍ لم يكن فيه نظام قضائي، ولم يعيّن شخص بعينه ليكون قاضياً متفرغاً، ولم يكن ثمة نيابة، أو شرطة، أو أدلة جنائية، بل كان القاضي هو «الكل في الكل»، مثلما كان شخص واحد يشخّص ويعالج كل الأمراض. أما معيار الصلاح أو الطلاح في أي عمل، فهو الإخلاص له، والإنصاف فيه، والدراية به، ولا فرق في هذه الاعتبارات بين القضاة والآخرين مِن معلمين أو صحافيين أو محاسبين أو موظفين إداريين، أو أصحاب أعمال كالتجار والمقاولين.
* كاتب إماراتي