كانت ثقافة العِراق ضيفَ شرفٍ في معرض الرِّياض الدُّولي للكتاب(2021)، حضر وفد ثقافي، مِن شعراء وأدباء وفنانين ودور نشر، تتقدمها إحدى أقدم دور النشر ببغداد «مكتبة النَّهضة»(تأسست 1957). لم تفت في عضودهم الموجعات المتلاحقة، قدموا نتاجاً سر المحبين لهذا البلد العِريق، والقول للميعة عباس عمارة(ت: 2021): «لأن العَراقةَ معنى العِراق/ ويعني التَّبغدد عزاً وجاها». لا أذكر ذلك لتعصب بلداني، وإن كان هذا الضَّرب مِن التَّعصب يُعد ذروةَ السَّماحة، إنما العِراق لا يستحق ما عُبث ويُعبث به. كان زوار المعرض يتوجهون إلى الرّكن العِراقي، تسبقهم عناوين مجلات ومؤلفات تربت أجيال عليها، وكانت شهرة مؤرخ اللَّحن العراقي سعدي الحديثي، الذي زان المعرض بوجوده وندوته، قد سبقته.
كان السَّؤال الأول عن ديوان محمد مهدي الجواهري(ت: 1997)، (ستة مجلدات)، طبعته وزارة الثَّقافة حديثاً. مع ندوة شاركت فيها نجلة الشَّاعر خيال الجواهري، وزهير الجزائري، ومؤيد آل صوينت، وبشرى الموسى وأدارها خالد الغازي. فالجواهري ليس ظاهرة عابرة في الثَّقافة والشِّعر العربيين، وإن نسيت فلا أنسى تقديم الشَّاعر والأكاديمي السُّوداني جيلي عبد الرَّحمن له، في أمسية بعدن(1983)، حينما قال: «إذا كانت الشَّمس والقمر ظاهرتين للطبيعة فظاهرة الجواهري في الشِّعر بحجمهما».
لم يتوقع العديد مِمن ضمه الوفد الثَّقافي، أن يكون للثقافة العراقيَّة كلّ هذه المنزلة في نفوس الشَّباب السُّعوديين. مفهوماً أنَّ مَن تعلم في الجامعات العراقيَّة أو عاش هناك، يحمل التقدير لهذا البلد، لكنَّ العجبَ مِن الشَّباب والشَّابات، وهم مِن ولادات فترة الانقطاع(1990 وما بعدها)، مازال العِراق في أذهانهم يبث التحضر والألق الأدبي والشعري. شباب سعوديون أرهقتهم الصّحوة الدينية بخطابها وتسلطها عليهم، لكنها لم تتمكن مِن مصادرة عقولهم، حتَّى أخذوا يبددون ظلامها، ضمن التغيير الجذري المتلاحق ببلادهم.
بالمقابل عاش الشباب العِراقيون، ومنهم مَن حضر معرض الكتاب، تحت قسوة الحروب والحصار والحملة الإيمانية ثم تسلط الأحزاب الدينية، فقدوا مِن أترابهم اغتيالاً وخطفاً بالمئات، ومن البؤس أصبح الإرهابي وضابط الشرطة والجيش وزراءً للثقافة، لكنَّ كلّ ذلك لم يجفف بذرة التَّنوير في عقولهم، والوزارة اليوم تعمل بين الألغام، جاهدة ليحل العِراق المنزلة التي يحظى بها ثقافياً.
أعود إلى الغائب الحاضر الجواهري، لم يحضر بطبعة ديوانه، ولا الندوة التي قدمت ما لا يُستغنى عنه، فحسب، إنما كان حاضراً في الجدل الذي أثاره المهتمون بشعره داخل المعرض.
قلت: أحسب الجواهري عندما يحتفي بشخصيَّة، يستغني المتلقي بما قاله عنها، فعندما رثى أبا العلاء المعريَّ، أغنانا عن قراءة «لزوم ما لايلزم»، أو«سِقط الزَّند»، استعرض خلاصة فكره في قصيدته «قف بالمعرة»(1944) ومنها البيت المشهور: «لثورة الفكرِ تاريخٌ يحدثنا/ بأنَّ ألف مسيحٍ دونها صُلبا». وإن رثى معروف الرُّصافي نفهم عقيدة الأخير في تعظيم الدِّين، بإبعاده عن المصالح والخرافات: «أنكرتَ أنَّ الدِّين/ لم يبرح مليئاً بالقشورِ/ الله عندك رمزُ/ سعادة الجمع الغفيرِ»(1950). أتيتُ بهذا الثَّنائي لأنَّ الرُّصافيَّ مثلَ معريَّ عصره، وعليه شيد أفكاره، وقد سماه بـ«شاعر البشر»، و«شاعر الخلق» وناداه بـ«أبتي»(كتابه الشَّخصية المحمديَّة)، والاثنان اِبتليا بالتَّكفير والتَّفسيق.
نعم: إذا حضرت الثّقافة بإنسانيتها ورقيها، اِنسحب الرِّياء الدِّيني والمذهبي مخذولاً، وهذا يتحقق عندما لا تخشى الدَّولة العابثين بمواطنيها باسم الدِّين والمذهب، وهذا ما يجري بالسُّعوديّة، ونرجوه للعراق أيضاً.
كاتب عراقي