الوقوع في فخ «الكتابة للجماهير»
في الكتابة، كما في الشعر، يذهب بعض الكتاب مباشرة إلى مغازلة التوقعات والحقائق في عقول جمهور الكتابة. وبدلاً من أن يزرعوا مفاهيم جديدة، أو يفككوا مسلمات سائدة، تجدهم يسيرون على نفس خط الفهم الذي يسيرعليه قراؤهم من أجل حصد الإعجاب والتصفيق! يفعلون ذلك لا من أجل قدسية حرفة الكتابة وتحولاتها وانشغالاتها، وإنما من أجل «الأنا المتضخمة» في هوياتهم الفنية! يبدأ الكاتب منهم في رصد تفاصيل «المعنى العام» الذي يلوّن صورة «فهم الجمهور»، فيبدأ في الدوران حولها رافعاً رايات التأكيد، الأمر الذي يجعل منه متحدثاً باسم الجماهير ومبعوثاً لها في أقاليم الكتابة.
هذا النوع من الكتاب والشعراء يكون في العادة سيد المشهد الحاضر، والرقم الأول في سلسلة النخب الواقفة في مواجهة الجماهير، لكنهم، خضوعاً لعدالة التاريخ، لا يلبثون تحت ضوء الشهرة أطول من سنوات أعمارهم، فالنسيان والتجاهل كفيلان بهم وبإنتاجهم بمجرد غياب صوت التصفيق والصفير. يحقق هؤلاء الكثير من المكاسب والفوائد في حياتهم، فهم الملوك المتوّجون على عرش ذائقة الجمهور، وبالتالي هم أهل الأولوية دائماً في حضور المؤتمرات والملتقيات الجماهيرية. فالسياسيون يبحثون عنهم للوصول من خلالهم إلى عقل الجماهير.
والوجهاء والأثرياء يتقربون منهم لينعموا بشيء من الضوء الذي يلاحقهم أينما حلوا وارتحلوا. والعوام من الناس يعدونهم رموزاً تتحدث بأسمائهم وتناضل من أجل معتقداتهم وإيمانهم! والإشكالية الكبرى في هذه القضية الشائكة أن الجماهير ليسوا وحدهم الذين يحتفون ب«كتاب تكريس السائد»، ويتبنون نتاجهم وأطروحاتهم، وإنما ينضم لهم في ذلك النخب الاجتماعية التي تضطر لمسايرتهم والتقرب لهم من أجل تفعيل الجانب التجاري في علاقتها بهم.
الوقوع في «فخ الجماهير»، وإن كان مطلباً للكاتب أو الشاعر قليل الحظ من الموهبة، إلا أنه جريمة كبرى يرتكبها الموهوب في حق نفسه ومجتمعه وسجل الإبداع الأكبر. فهو بدلاً من أن يأخذ بأيدي مجايليه ويذهب بهم إلى أراض بكر لم تطأها أقدامهم من قبل، يعمد إلى تذكيرهم فقط بما هو مُستذكَر في عقولهم.
يتحدث إلى توقعاتهم وأمانيهم لا ليكشف لهم أسرار المستقبل، ولكن ليعزز ما يؤمنون به وما يتطلعون إليه. ويتواصل مع مدركاتهم ومعارفهم، لا ليهددها ويخلخلها، وإنما ليؤكدها، ما يجعلهم يبقون طوال الوقت أسرى «للفهم العام» الدائري الذي ينطلق منهم ويعود إليهم. الكاتب الجيد هو الذي لا يكرر مضامين الفهم العام، بل يسعى لإنتاج فهم خاص، يصبح بمرور الزمن جزء من الفهم العام للأجيال المقبلة.
الكاتب الجيد هو الذي يفكك مقاومة الجماهير، وإنْ كان ذلك على حساب شهرته وحضوره، ليحطم فكراً رجعياً سائداً أو ليمسح تصوراً مغلوطاً يلبس ثوب المألوف أو المقدس. الكاتب الجيد هو الذي يضيف، لا الذي يعيد ويكرر وينسخ المُعاد فوق المُعاد. لكن السؤال يبقى: هل تمتلك الجماهير الأدوات اللازمة التي تساعدها على الانتباه لأطروحات الكاتب الجيد؟ والجواب في كلمة قصيرة واحدة: لا! لهذا على الكاتب الجيد أن يكون مشهوراً أولاً ثم يدخل مع الجماهير في صراعات الحياة. كيف يكون مشهوراً بغير الكتابة؟ يدخل الشهرة من أبواب أخرى!
* كاتب سعودي