الانسحاب الأميركي من أفغانستان حدثٌ ضخمٌ على كافة المستويات باتفاق الجميع من المؤيدين والمعارضين، والمؤيدون يقتصرون على بعض أعضاء الإدارة التي اتخذت القرار، وبعض المدافعين بشكلٍ مخجلٍ عن أي قرارٍ تتخذه الإدارة الأميركية بلغة تفتقر إلى العلم والوعي والحصافة، ولكن المعارضين له أكثر حول العالم وداخل أميركا، بل وداخل الحزب «الديمقراطي» نفسه.
نشر موقع «العربية نت» خبراً جديراً بتسليط الضوء عليه وقراءته وتحليل دلالاته، يقول الخبر: «وافق مجلس النواب يوم الخميس على... مشروع قانون تفويض الدفاع السنوي والذي يمنح موافقة كبيرة من الحزبين لفتح تحقيق مستقل في إخفاقات الولايات المتحدة في أفغانستان، وحصل المشروع على موافقة 316 واعتراض 113... ويمثل الموافقة على التحقيق لحظة نادرة من الوحدة في الكونجرس على الكارثة الأفغانية، كما يعكس الإحباط المشترك لـ«الجمهوريين» و«الديمقراطيين» من القرارات التي أدت إلى خروج القوات الأميركية بشكل فوضوي من أفغانستان الشهر الماضي... ويحتوي التشريع على عدة مطالب لمحاسبة الأشخاص والأسلحة المتروكة،... كما يأمر التشريع قادة الدفاع والاستخبارات بتوضيح كيف يخططون للحماية من التهديدات الإرهابية الصادرة من أفغانستان الآن».
الكلمات على هذا المستوى ذات دلالات سياسية مهمة، «فتح تحقيق مستقل» فالموضوع ليس جدلاً عاماً فحسب، بل هو يستحق التحقيق وأن يكون تحقيقاً مستقلاً، ويتحدث عن «إخفاقات أميركا» في أفغانستان، ويصف ما جرى بـ «الكارثة الأفغانية» كما يتحدث عن إحباط «الجمهوريين» و«الديمقراطيين» من «الانسحاب الفوضوي» من أفغانستان، ويطالب بـ «محاسبة الأشخاص» ويأمر قادة الدفاع والاستخبارات بتوضيح كيف يخططون للحماية من «التهديدات الإرهابية الصادرة من أفغانستان الآن».
لم يمر شهر على اكتمال الانسحاب الأميركي المفاجئ والمستعجل من أفغانستان، ومع ذلك فقد بدأت أميركا بالتحقيق والمحاسبة والمساءلة لأنها أمةٌ حيةٌ قادرةٌ على رصد حجم الخطأ الاستراتيجي وتوضيحه علناً ومساءلة المسؤولين عنه في خطوةٍ نحو الحد من أضراره ومخاطره.
الدفاع المستميت عن هذا القرار الأميركي المستعجل بالانسحاب من أفغانستان في الإعلام العربي يثير العجب حقاً، والأفكار واللغة المستخدمة مدهشة بفقرها للمنطق والتماسك، وليس غريباً أن يكون هؤلاء المدافعون هم أنفسهم من دافع عن المغامرة الأميركية بدعم ما كان يعرف بـ «الربيع العربي» والادعاء بحق «جماعة الإخوان» بالحكم، وهم المبررون لخطيئة «الاتفاق النووي» واستبعاد دول الخليج العربي منه، وهم ذاتهم المدافعون عن «اليسار الليبرالي» في أميركا، إنها أفكار ومواقف تجرّ بعضها وتؤدي نفس الغرض.
الأفكار ليست أمراً تافهاً، بل هي بالغة الخطورة، وحين يثبت فشلها المتكرر على مدى سنواتٍ طويلةٍ فذلك دليل على عوار حقيقي يعبر عن منهجٍ خاطئ في إنتاجها ونشرها وتسويقها، وكثيرٌ من منتجي هذه الأفكار لا يتوقفون لمراجعتها وتمحيصها، بل يعتمدون على قصر ذاكرة المتلقي فيكتفون بطي صفحة وفتح أخرى.
السياسة ليست حقائق ثابتةٍ، وليست عقائد دينية تدور بين الحق الناصع والباطل المحض، بل هي أوضح النماذج في المجالات الإنسانية على قوة المتغيرات وسيطرتها وضرورة التجدد المستمر في قراءتها وتحليلها والتعامل معها، ولكنها بالمقابل ليست هلاماً بلا معنى يمكن أن تقال فيها المتناقضات ويدور فيها الجدل بلا خطامٍ ولا زمام.
أخيراً، فجزء من حق الفرد العادي أن يتبنى ما شاء من أفكار ومتناقضات وأن يرفض منطق العقل ومعنى اللغة، ولكن الخطورة هي في أن تتبنى مؤسسة ما أو شخص ذلك ويطرحه للرأي والتداول العام ويكون له انتشار وتأثير دون أن يكون محل جدلٍ حقيقي ومناقشة علميةٍ وإلا فكيف يمكن بناء تراكمٍ معرفيٍ ينتج وعياً مفيداً.
كاتب سعودي