عندما كان يحدث اختلافٌ في الرأي بين الحكومتين الفرنسية والبريطانية خلال الأشهر الأخيرة، كان الفرنسيون قلما يترددون في التعبير عنه – سواء بخصوص الهجرة، أو بريكست، أو شروط الحجر الصحي بخصوص فيروس كورونا.
ولكن بينما واجه الفرنسيون واحدة من أكبر معاركهم بين الحلفاء منذ سنوات، مدفوعين جزئيا على الأقل ببريطانيا، كان الغضب الفرنسي تجاه جيرانهم الشماليين محدوداً على نحو غريب. فيوم الجمعة، استدعت باريس سفيريها إلى الولايات المتحدة وأستراليا للتشاور في إطار رد فعلها الغاضب على صفقة تم التفاوض بشأنها في سرية وتجمع الولايات المتحدة وبريطانيا لتقاسم التكنولوجيا بشأن غواصات تشتغل بالطاقة النووية مع أستراليا.
وألغى الاتفاق بشكل فعلي اتفاقاً سابقاً مع أستراليا لشراء غواصات فرنسية تشتغل بالديزل.
ولكن فرنسا لم تستدعِ سفيرها إلى بريطانيا، وبدا المسؤولون الفرنسيون صامتين نسبياً بشأن دور بريطانيا في الوقت نفسه الذي انتقدوا فيه بقوة «خيانة» أستراليا، وشبّهوا قرار الولايات المتحدة بأنه خطوة من عهد ترامب ضد بلد حليف.
إذ قال وزير الخارجية الفرنسي جون إيف لودريان للتلفزيون العمومي الفرنسي مساء السبت: «هناك فعلا أزمة خطيرة بيننا».
ولكن بعض المراقبين وجدوا صعوبة في تفسير هذه المعاملة الخاصة مع بريطانيا. إذ وصفت صحيفة «لوموند» الفرنسية قرار عدم استدعاء السفير الفرنسي إلى بريطانيا بأنه «استثناء غريب» يوم السبت.
فهل كانت فرنسا تحاول استثناء بريطانيا من أجل إنقاذ علاقاتهما المتوترة أصلاً، مثلما افترض بعض المراقبين؟ أم ربما يلمح الدبلوماسيون الفرنسيون إلى أن بريطانيا لا تستحق أن يزعج المرء نفسه بها؟
مسؤولون فرنسيون ألمحوا السبت إلى أن الفرضية الأخيرة قد تكون أقرب إلى الحقيقة: إذ كان يُنظر إلى بريطانيا على أنها شريك صغير ضمن التحالف الدفاعي الثلاثي. «وقال مسؤول دبلوماسي فرنسي«إن المملكة المتحدة تبعت هذه العملية برمتها بشكل انتهازي»، مضيفاً«لا حاجة لنا إلى التشاور مع سفيرنا في لندن من أجل تفسير الموضوع وتحديد الخلاصات التي ينبغي استنتاجها».
وقال لودريان على التلفزيون الفرنسي:«إننا نعرف انتهازيتهم الدائمة»، مشبّهاً دور فرنسا بـ«عجلة خامسة في عربة».
وكان مسؤولون فرنسيون قد ألمحوا من قبل، على نحو ساخر أحياناً، إلى أن بريطانيا لم تلعب دوراً قيادياً.
إذ قال وزير الدولة للشؤون الأوروبية كليمون بون قبل الإعلان عن استدعاء السفيرين:«لقد أوضح لنا أصدقاؤنا البريطانيون أنهم سيغادرون الاتحاد الأوروبي من أجل خلق «بريطانيا عالمية».
وقال:«ولكننا نستطيع أن نرى أن هذا يمثّل عودة إلى الحظيرة الأميركية،وشكلاً من أشكال التبعية المقبولة».
ولطالما اعتمدت استراتيجية الاتحاد الأوروبي الأمنية بقوة على حلف «الناتو» والولايات المتحدة. ولكن في حديث له على التلفزيون العمومي الفرنسي يوم السبت، قال خبير العلاقات الدولية الشهير بيرتران بادي:«يجب ألا ننسى أن ما أشعل النار هو اتفاقية أميركية-أسترالية عوضت اتفاقية فرنسية-أسترالية». و«بريطانيا العظمى لم تتدخل إلا بطريقة ثانوية» وتتحمل «مسؤولية أقل»، كما قال.
بنجامن حداد، مدير مركز أوروبا في«المجلس الأطلسي»، قال لصحيفة واشنطن بوست إن فرنسا قامت بـ«حركة جريئة»– إذ وصفت بريطانيا بأنها ليست«لاعباً رئيساً في هذه القصة».
ومن جانبه، قال مارك ليونارد، مدير«المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية» لصحيفة واشنطن بوست إن ادعاء الحكومة الفرنسية «التعالي على» بريطانيا قد يكون مجرد تأويل منحاز.
ويرى أن تأجيج خلاف مع بريطانيا القريبة أصعب على فرنسا منه مع أستراليا أو حتى الولايات المتحدة إذ قال:«إن ذلك أقل ضرراً بكثير بالمصالح اليومية. إذ ليس لديك الحجم نفسه من الأشياء العملية التي تنبغي إدارتها بشكل يومي».
وأضاف قائلاً:«إنها علاقة أكثر سمكا من العلاقة التي بين باريس وواشنطن. ذلك أن بريطانيا وفرنسا مترابطتان في ملفات كثيرة على نحو يختلف عن علاقة فرنسا بالولايات المتحدة».
وكان رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون قد روّج لانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي باعتباره فرصة لكي تعقد البلاد مزيداً من صفقات التجارة والتكنولوجيا الدولية، من دون قيود من الاتحاد الأوروبي، ولكن مغادرة الاتحاد الأوروبي أضرت كثيرا بالعلاقات بين بريطانيا وبعض دوله الأعضاء، حيث تتصادم المصالح الفرنسية والبريطانية حول عدد من الجبهات.
وفي هذا الصدد، يرى «ليونارد» أن خلاف الغواصات هو«مجرد واحد من أعراض تحولٍ سامٍّ اتخذته العلاقات البريطانية-الفرنسية في السنوات القليلة الماضية».
غير أن تعمق مشاعر العداء يُعد مخيبا للآمال بالنسبة للبعض، وخاصة في وقت كانت تشهد فيه العلاقات الثنائية زخماً إيجاباً. إذ عملت بريطانيا وفرنسا معاً إلى جانب حلفاء آخرين مثل الولايات المتحدة ضمن مناورات عسكرية في وقت سابق من هذا العام. كما أعلنتا عن مقترح مشترك بشأن«منطقة آمنة» في كابول لإنشاء ممر للأشخاص الذين يحاولون مغادرة أفغانستان أيضا.
وقال حداد:«إن البَلدين لديهما الكثير من الأشياء المشتركة، وخاصة بشأن القضايا الدفاعية».
وأضاف يقول:«إنهما اللاعبان العسكريان الأوروبيان الرئيسان. وبالتالي، إذا كنت تريد بناء شكل من الثقافة الاستراتيجية الأوروبية، فينبغي لك أن تفعل ذلك بين باريس ولندن».
غير أن جونسون قلّل من شأن أي عداء. إذ قال رئيس الوزراء البريطاني يوم الخميس:«علاقتنا العسكرية مع فرنسا... قوية وصلبة».
ريك نوك
صحفي متخصص في الشؤون الأوروبية
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»