أدى إعلان الشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، الأربعاء الماضي، إلى أزمة غير مسبوقة في التحالف الغربي، وليست الأزمات بالجديدة عليه، لكني أحسب أن هذه الأخيرة أخطرها، ففي عام 1966 وقعت أولى الأزمات الخطيرة بانسحاب فرنسا من اللجنة العسكرية لحلف شمال الأطلسي (الناتو) انعكاساً للنزعة الاستقلالية التي ارتبطت بديجول واهتزاز صدقية الردع الأميركي لتهديدات الأمن الأوروبي، ومن ثم النزوع إلى بناء قدرة فرنسية ذاتية على الردع كانت موضع تندّر في الأوساط الاستراتيجية والسياسية الأميركية. واستمرت هذه القطيعة الفرنسية العسكرية مع حلف الأطلسي حتى عام 2009 حين صوتت الجمعية الوطنية في عهد الرئيس ساركوزي على العودة للبنية العسكرية للحلف، وإن لوحظ أن الاعتراض على العودة لم يكن هامشياً (238 معترضاً و329 موافقاً).
وفي منتصف السبعينيات حدثت أزمة أخرى في الحلف، عقب الغزو التركي لقبرص بسبب اعتقاد اليونان أن الولايات المتحدة لم تتخذ الموقف الواجب إزاء سلوك الجانب التركي الذي كان في الآونة الأخيرة سبباً لأزمتين أخريين داخل الحلف، أولاهما بسبب الاعتراض الفرنسي على السلوك التركي في سوريا وما حدث من تلاسن بين الرئيسين الفرنسي والتركي بهذا الشأن، والثانية بسبب صفقة الصواريخ الروسية لتركيا والتي اعتبرتها الولايات المتحدة تهديداً أمنياً للحلف.
وأخيراً، وليس آخراً، برز التوتر بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوربيين خلال ولاية الرئيس ترامب الذي دأب على مهاجمتهم بسبب ضعف مساهمتهم المالية في ميزانية الحلف، وعلى مطالبتهم بضرورة دفع نفقات حمايتهم.
وبإمعان النظر في الأزمات السابقة، يظهر أن الأزمة الأخيرة التي ترتبت على إعلان الشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا هي الأخطر بين كل أزمات حلف شمال الأطلسي (الناتو)، فالأزمتان اللتان ترتبتا على الانسحاب الفرنسي من البنية العسكرية لحلف الأطلسي وعلى سلوك تركيا في سوريا وشرائها الصواريخ الروسية، إنما تعبّران عن نزوع استقلالي لم تترتب عليه أضرار جسيمة تمس بنية الحلف أو مهامه. والأزمة اليونانية لم تكن سوى تعبير عن الغضب من قوة ثانوية في الحلف لم تعقبه تصرفات متمردة أو ضارة به. أما التوتر الذي ترتب على سياسة ترامب تجاه حلفائه الأوروبيين فقد سبب امتعاضاً منضبطاً من حلفاء الولايات المتحدة تجاه مطالباتها المالية لهم، والتي لم تكن تخلو من منطق. أما الأزمة الراهنة فهي الأزمة الأولى التي يترتب عليها إلحاق ضرر جسيم بقوة رئيسية في الحلف، إذ انطوت على فقدان فرنسا لصفقة توريد 12غواصة ذات دفع تقليدي لأستراليا التي قررت إلغاء تلك الصفقة مستعيضةً عنها بصفقة غواصات أميركية ذات دفع نووي. وقد تباين تقدير قيمة الصفقة الملغاة بين المصادر المختلفة وقيل مرة إنها 30 مليار يورو وقيل مرة أخرى إنها 50 مليار يورو، والضرر بالغ في الحالتين، مما يبرر رد الفعل الفرنسي الغاضب وغير المسبوق ابتداءً من التصريحات التي اعتبرت ما حدث طعنةً في الظهر وخيانة وعودة لأسلوب ترامب في التعامل مع حلفائه، مروراً بإلغاء السفارة الفرنسية في واشنطن احتفالاً بالذكرى الـ240 لمعركة ساعدت فيها البحرية الفرنسية في حرب الاستقلال الأميركية عام 1781، وانتهاءً بسحب فرنسا سفيريها من واشنطن وكانبرا للتشاور في سابقة تعد الأولى من نوعها في تاريخ أزمات حلف شمال الأطلسي.
وقد حاولت المصادر الأميركية والأسترالية الدفاع بالقول إن فرنسا كانت على علم بالمباحثات التي أفضت للشراكة، لكن أحداً لم يدّع أنها قد أُحيطت علماً بنوايا إلغاء صفقتها مع أستراليا. والمشكلة أن مصادر الاتحاد الأوروبي شاركت فرنسا -وإن بحدة أقل- الغضب من إعلان الشراكة وعدم التشاور مع الاتحاد الأوروبي بشأنها، وأكدت أن الحدث يجبر الاتحاد مرة أخرى على التفكير في الحاجة لتطوير استقلاله الاستراتيجي، أي أن نطاق الأزمة تجاوز فرنسا ليشمل الاتحاد الأوروبي كله.
أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة