أصدر منتدى تعزيز السلم برئاسة الشيخ عبد الله بن بيه، بياناً بشأن أفغانستان هو في الحقيقة نداءٌ ومبادرةٌ ونصيحةٌ متبصرةٌ لما ينبغي أن يكون عليه الوضع هناك في هذه المرحلة الجديدة التي سيطرت فيها حركة «طالبان» على البلاد بعد الانسحاب الأميركي منها.
هي حربٌ على الشعب الأفغاني تستمر منذ عام 1979 عندما حصل الانقلاب الشيوعي، وتدخل الاتحاد السوفييتي لدعم مُحازبيه في بلاد الأفغان. ومنذ ذلك الحين توالت التقلبات والاحتلالات والحروب. وفي ظروفٍ كهذه، فإنّ الصوت الأعلى ينبغي أن يكون للسلام والمصالحة، وإعادة بناء الدولة والدار، ليعودَ الأمن للناس ويتوقفَ القتل والتهجير وتتوارى ألقاب الأفغنة والعرقنة واللبننة والصوملة، إلى آخر وجوه النبز والتعيير التي أساءت وتسيء إلى المسلمين والإسلام.
واستهلّ بيان المنتدى خطابه الجامع بالحديث الشريف: ثلاثٌ من جمعهنّ فقد جمع الإيمان: «الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار». وإذا كان خطاب النبي صلواتُ الله وسلامُهُ عليه موجَّهاً إلى الأفراد، فقد سبقه خطاب القرآن الكريم إلى جماعة المؤمنين: «يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة». ويتلو ذلك قوله تعالى: «ولا تتبعوا خطوات الشيطان». فالنزاعات والحروب، وأسوؤها ما كان بالدواخل، ارتكابٌ شيطانيٌّ تأباه النفوس المؤمنة والكريمة والحرة والأبية. وهي شيمٌ تميز بها الشعب الأفغاني على مدى العصور.
ينصح الشيخ الجليل أهل أفغانستان، وبخاصةٍ المتنفذون بينهم اليوم، بعدة نصائح من أجل البدء الجديد لحياةٍ إسلاميةٍ وإنسانيةٍ محترمة. أولى تلك النصائح الثمينة: افشوا السلام بينكم. ولا استتباب للسلم الداخلي إلا بالمصالحة: «إنما المؤمنون إخوةٌ فأصِلحوا بين أخويكم». فهي دعوةٌ قرآنيةٌ إلى أمرين: السلم الدائم الذي تدل عليه النصوص الشرعية والتجارب الإنسانية. والأمر الثاني مخاطبة المؤمنين غير المشاركين في النزاعات بالداخل والخارج بأن يسعوا ما وسِعهُم للتوسط بين الإخوة المتنازعين من أجل إعلاء شأن السلم والمصالحة التي لا تترك أحقاداً ولا آثاراً بين الإخوة في الإيمان والعيش المشترك. هي دعوةٌ تطالب الجميع بالتعاون والتضامن.
أما النصيحة الثانية الواردة في النص النبوي فهي: بذلُ السلام للعالم. وهي كما في البيان: «كلمة عظيمة تستحق التوقف عند مفرداتها الكثيفة». فالعالم ينتظر من الإخوة الأفغان، وفي الوقت الذي يتسالمون فيه فيما بينهم ويتصالحون على الخير أن يكون المقيمون بينهم آمنين، وأن يتمكنوا من الحركة بحرية، وأن لا تشعر البلدان الأخرى وشعوبها بالتوجس أو الخوف من أن يتعرض أمنها للأخطار من جهة أفغانستان. لقد ثبت أنّ الاحتلال لا يأتي بالأمن والرفاه، كما أنّ أمن العالم تهدَّد من جانب أُناسٍ جاؤوا من خارج أفغانستان. ولذلك فإنّ هناك إرادة عالمية للمساعدة في إعادة الإعمار وفي التنمية، لكي تسود حالةٌ من الأمن والأمان المتبادل، والمستقبل المشرق بعد حروب أربعة عقود.
وفي النصحية الإرشادية الثالثة يطالب البيان بإبراز الصورة الحسنة للإسلام. فالمسلم لا يريد أن يخاف من العالم ولا أن يخيفه. لكنّ وقائع حياة المسلمين في العقود الأخيرة، شهدت ظروفاً وأحداثاً أساءت للمسلمين، ولصورة الإسلام. ومن حقّ الإسلام علينا أن تنضبط أمورنا بضوابط الدين والأخلاق، فلا نتعرض نحن ولا يتعرض ديننا وصورته للسوء في أنظار الآخرين وتصرفاتهم. وبالطبع ما انفردت أحداث أفغانستان بالإساءة إلى صورة الدين، فهناك مسؤولياتٌ مشتركةٌ عما كان ويكون، لا ينبغي تجاهُلُها، ولا تجاهُلُ آثارها. أما النصائح الباقية فتتعلق بحياة المسلمين في العالم المعاصر. يحب المسلمون دينهم، ويريدون التمسك بتعاليمه. وهناك إنجازاتٌ كبرى حقّقها التقدم العلمي، والوعي الأخلاقي، فلا ينبغي الاعتقاد بأنّ هناك تنافياً بينها وبين الأمانة للأصل الإسلامي الأصيل. وهذه المرونة المطلوبة للعيش الرحب في العالم، لا تُصادمُ كليات الدين، كما أنه حتى تفاصيل فقهيات المذاهب تعرض قواعد وآراءً واجتهادات، مثل لا ضرر ولا ضرار، والمشقة تجلب التيسير، وأمر الله بالعدل والإحسان، حسبما تقتضيه المصالح التي تُنزَّلُ الأحكام عليها. نعم، يستطيع المسلم أن يعيش إسلامه في هذا العصر، من دون خوف أو افتْئاتٍ على هويته الدينية أو الوطنية، وإقبال على المشاركة في سلام العالم وتقدمه.
لمنتدى تعزيز السلم بدولة الإمارات تجربةٌ زاخرةٌ خلال عقد عمله، إنْ لجهة التجديد الديني، أو لجهة الدخول في مبادراتٍ لصنع السلم والمصالحات. وهو يعرض هذه التجربة على الأفغان، ومستعدٌّ للإسهام معهم في تشكيل مستقبل أفغانستان الآمنة والمنفتحة على العالم.
*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية