من الممكن تفهم الرأي الذي يذهب إلى أن السياسة النقدية المتساهلة للغاية، التي ما زال «الاحتياطي الفيدرالي» ينتهجها بعد عام ونصف العام على بداية الوباء، تساهم في تعاف قوي ومستديم وشامل. غير أن هذا لم يعد واقع الحال اليوم. بل إن هذه السياسة تعرّض للخطر على نحو متزايد، ليس التعافي الاقتصادي فحسب، ولكن أجندة الرئيس جو بايدن الاقتصادية الإصلاحية أيضاً. فرداً على الضرر الاقتصادي الكبير الذي تسببت فيه جائحة «كوفيد-19»، عمد «الاحتياطي الفيدرالي» في مارس 2020 إلى الإبقاء على معدلات الفائدة منخفضةً، وضخ مبالغ هائلة من السيولة في النظام المالي الاقتصادي. بل وفعل أكثر من ذلك خلال الشهر التالي. وكل ذلك جاء في أعقاب أكثر من عقد من السياسة النقدية المرخية جداً التي أُطلقت خلال ذروة أزمة 2008 المالية العالمية.
الآن وبعد نحو 15 شهراً على آخر تدخل عاجل لـ«الاحتياطي الفيدرالي»، ما زال أقوى بنك مركزي في العالم يحافظ على تحفيزه النقدي القوي. ذلك أن معدلات الفائدة ما زالت منخفضةً، والميزانية العمومية تضاعفت إلى نحو 8 تريليونات دولار، وهناك مبلغ ضخم من المال متاح في النظام المالي، ودَين البلاد ارتفع بشكل صاروخي، و«الاحتياطي الفيدرالي» ما زال يضخ 120 مليار دولار كل شهر.
الأسباب الرئيسية المعلَنة للإبقاء على تدابير الطوارئ الاستثنائية تلك، تشمل القلق بشأن التعافي غير الكامل في الوظائف، وحالة عدم اليقين بشأن الآفاق الاقتصادية. والحق أن كلا التخوفين مبرَّران، ومن المهم معالجتهما. فعلى الرغم من مستوى قياسي من الوظائف الشاغرة المعلَن عنها (9.2 مليون وظيفة)، فإن التشغيل ما زال دون مستوى ما قبل الجائحة، تحديداً في الوقت الذي يتحدى فيه متحور دلتا الأشد عدوى فرصَ النمو.
بيد أن سياسةً نقديةً مرخية جداً لم تَعُد جزءاً من الرد المرغوب فيه. والاستمرار على هذا المسار يمكن أن يُلحق ضرراً غير ضروري بالاقتصاد خلال الـ12 شهراً المقبلة، ويغذّي التقلبات المالية المقلقة، ويتسبب في تفاقم انعدام المساواة المرتفع أصلاً، ويزيغ أجندة بايدن عن سكتها. وهذه المخاطر التي يمكن تفاديها ليست سوى المكوّن الداخلي لتهديدات صاعدة للازدهار الاقتصادي والرفاهية الاجتماعية.
وهناك خمسة أسباب لإمكانية حدوث ذلك: فأولاً، أدوات «الاحتياطي الفيدرالي» غير ملائمة لمعالجة ما يعيق الاقتصاد. ذلك أن المشكلة الرئيسية هي الاضطرابات واسعة النطاق في العرض، من تفكك سلاسل التوريد وارتفاع تكاليف المدخلات، إلى اختناقات النقل والصعوبات في توظيف العمال.
ثانياً، مع ارتفاع كل من الطلب الخاص والعام، يواجه موقف «الاحتياطي الفيدرالي» خطر تغذية التضخم. والواقع أن مقياسَيْ التضخم بالنسبة للمنتج والمستهلك (مؤشر أسعار المنتجين والرقم القياسي لأسعار المستهلك) معاً أخذا يُصدران إشارات تحذير.
ثالثاً، التدخل الكبير والمستمر لـ«الاحتياطي الفيدرالي» في الأسواق حرّف آلية تأشير الأسعار، مما يشجّع كل أنواع التخصيص غير الفعال للموارد التي ستؤثّر سلباً على إنتاجية الاقتصاد الأميركي وديناميته.
رابعاً، الضخ الكبير والمتوقع للسيولة في النظام يواصل تشجيع المخاطرة المفرطة في الأسواق المالية، ويؤدي في الوقت نفسه إلى تعميق التعود غير الصحي بين المستثمرين على توقع تدخل «الاحتياطي الفيدرالي» لدعم أسعار الأصول، بغض النظر عن مدى انفصالها عن المبادئ الأساسية الاقتصادية. وفي الأثناء، يزداد عدم المساواة في الثروة سوءاً.
خامساً وأخيراً، إن الـ40 مليار دولار من الرهون العقارية التي يلح «الاحتياطي الفيدرالي» على شرائها كل شهر، تساهم في سوق عقاري «ساخن جداً» يجعل أسعار الوحدات السكنية في غير متناول عدد متزايد من الأميركيين.
والواقع أنه إذا حافظ «الاحتياطي الفيدرالي» على سياسته الحالية، فإنه يمكن أن يتسبب عن غير قصد في خلق «عاصفة مثالية» للاقتصاد الأميركي في وقت لاحق من هذا العام وبداية العام المقبل: خليط من ارتفاع التضخم، وتباطؤ النمو، وانعدام الاستقرار المالي. وكل هذا قد يأتي مصحوباً بعواقب سياسية واجتماعية يمكن أن تزيد من إضعاف التعافي الاقتصادي الذي نحن في أمس الحاجة إليه وتُعرّض قطاعات السكان الأكثر هشاشة لمزيد من المعاناة.
وقد دفعت التخوفات بشأن التضخم البعض إلى دعوة إدارة بايدن إلى تعديل مخططاتها للاستثمار في كل من البنى التحتية المادية والبشرية. غير أن رداً مثل هذا لن يزيد الطين إلا بلة.
وفي تباين مع الانعدام الحالي لفعالية سياسة «الاحتياطي الفيدرالي» في خلق نمو اقتصادي حقيقي، تمسك الأجندةُ المالية للإدارة بمفتاح تحسين الإنتاجية، وزيادة مشاركة القوة العاملة، وتوفير فرص أكبر للتطور لمزيد من الأميركيين. ولا شك في أن التدابير المرتقبة بخصوص البنية التحتية أساسيةٌ حتى يتغلب الاقتصاد الأميركي بشكل حاسم على المشاكل المتعددة المتعلقة بالعرض، ويحسِن توظيف مواردِه البشرية والمادية من أجل مستقبل ذي ازدهار أكبر وأكثر استدامةً. ولتقليص خطر انعدام الاستقرار المالي، ينبغي أن تكون الاستثمارات مصحوبةً بإشراف وتقنين ماليين أكبر.
ولا شك في أنه من المحبط أن تشديد «الاحتياطي الفيدرالي» على الإبقاء على تدابير الطوارئ، التي كانت ضرورية وفعالة في الماضي، بات يواجه الآن خطر الإتيان بنتائج عكسية للاقتصاد ويغذّي المخاطرة المالية المفرطة. غير أنه سيكون أمراً مأساوياً حقاً إذا انتهى به الأمر كذلك إلى الإضرار بتعاف شامل نحن في أمس الحاجة إليه.
رئيس كلية «كوينز كوليدج» التابعة لجامعة كامبريدج البريطانية
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»