احتفلت الأوساط الفكرية في فرنسا ببلوغ الفيلسوف «إدغار مورين» سن المائة، وهو في أوج تألقه وحضور ذهنه، بل إنه أصدر بالمناسبة مذكراته التي نشرت بعنوان «دروس قرن من الحياة»، وقد نالت قبولاً عارماً ورواجاً واسعاً.
وعندما قابلت مورين قبل سنتين في إطار ندوة مشتركة في رحاب جامعة غرناطة الإسبانية، تحدثنا عن وضع الفيلسوف في المجتمعات الغربية المعاصرة، في مرحلة بدا أن الفلسفة فقدت سحرها ولم تعد تحرك العالم كما كانت تفعل من قبل. وجدت الفيلسوف العجوز شديد الإلمام بقضايا منطقتنا العربية الإسلامية، مع اطلاع جيد على واقع الفكر العربي ومعرفة شخصية بالعديد من وجوه الثقافة والتفكير في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. تحدثت مع مورين حول واقع الفلسفة في عالم اليوم، ولم يكن يبدي حماسةً للنظر الفلسفي المجرد، أو الكتابة الأكاديمية المتخصصة، بل يهمه أن يظل محافظاً على صورة الفيلسوف الملتزم المرتبط بواقع عصره ومجتمعه.
لقد ظهر هذا الدور التعبوي القوي للفيلسوف منذ عصور الأنوار الأوروبية، عندما كانت الجموع التي خرجت يوم احتلال سجن الباستيل في فرنسا تكرر منشدةً: «إنها مسؤولية فولتير ومسؤولية روسو».
عاصر مورين أحداث ثورة 1968 التي عرفت بثورة الطلاب، وكان إلى جانب بول سارتر في انتفاضة الحي اللاتيني، كما كان قريباً من ميشال فوكو وجاك دريدا في دفاعهما عن مطالب القوى الاجتماعية الاحتجاجية ونضالات شعوب أوروبا الشرقية ضد الأحكام الاشتراكية الاستبدادية.
كان جيلُ «مورين» (واسمه الأصلي «إدغار ناحوم») قد عاصر الموجةَ النازية وقاوم توسع وعدوان حكومة الرايخ الثالث، وانحاز للحركات الوطنية الأفروآسيوية ضد الاستعمار.
لقد أحدث هذا النوع من المفكرين تحولاً نوعياً في صورة الفيلسوف وعلاقته بالمجتمع. كانت هذه الصورة تتركز في الماضي في نموذج الحكيم المنقطع للتأمل والنظر، الذي ينتمي للخاصة التي لا صلة لها بعامة الناس، فالبشر في أغلبيتهم المطلقة هم على غرار أسرى الكهف المقيدين بالسلاسل، الذين يديرون ظهورهم للشمس فلا يرون إلا ظلال الحقائق، والفلاسفة هم وحدهم خارج الكهف يبصرون الوجود الحقيقي كما كان يقول أفلاطون.
لا يعني هذا الأمر أن الفلاسفة الأقدمين لم يكونوا يعيشون واقع عصرهم، لكنهم كانوا يرون أنهم وحدهم يدركون كنه الأشياء وما على الناس سوى اتباعهم. ومن هنا ندرك أن أهم فلاسفة الإسلام، وهو الفارابي، أناط رسم مثال المدينة الفاضلة بالفيلسوف لأنه وحده يدرك المعنى الحقيقي للعدالة.
لقد تغيرت هذه الصورة مع الفلاسفة المحدثين منذ ديكارت الذي سخِر من الميتافيزيقا لكونها تمنح «كسب السماء» وتضيع الأرض، ومنذ كانط الذي لم يكن نقده للعقل المجرد إلا مسلكاً لتحرير الفكر من الوصاية وسلطة التقليد والإكراه.
مع الفلاسفة المعاصرين من جيل «إدغار مورين»، أصبح الفيلسوف مثقفاً عضوياً بمفهوم غرامشي، أي منغرساً في هموم مجتمعه وحاملاً لتطلعاته، لم يعد ينزع إلى صياغة وعي الجماهير ويدعي الكشف عن الحقائق الدفينة للأشياء.
ومع أن الماركسية شكلت بالنسبة لفئة واسعة من فلاسفة القرن العشرين عقيدة تعويض عن الانتماءات الدينية، إلى حد أن سارتر كان يعتبرها غير قابلة للتجاوز، إلا أن انحسار الأيديولوجيا الماركسية لم يعن نهاية الفيلسوف الملتزم.
ما حدث هو انقشاع الكثير من الأوهام عن عيون الفلاسفة الجدد، بما حرر خطابهم من ضيق التعصب وطوبائية الموقف السياسي. لقد عبر ميشال فوكو عن هذا المفهوم الجديد للفيلسوف بصورة المثقف الخصوصي الذي يؤرخ للحاضر ويحفر في النصوص والممارسات دون الحاجة إلى نظريات وجودية أو أيديولوجية واسعة وشاملة. إنه مثل المحارب الذي يعرف جبهته ويؤدي دوره دون دليل يوجه الوعي ويتحكم في الإرادة والمصير، ودون الحاجة إلى وهم صناعة التاريخ والكشف عن الحقائق الثاوية وراء المظاهر والسطوح.
ورغم أن سبل ساتر وفوكو قد تباعدت كثيراً من حيث الاهتمامات والخيارات الفلسفية، فإن المعارك الكبرى جمعتهما في الشارع الفرنسي. كان فوكو يقول متهكماً إن سارتر فيلسوف من القرن التاسع عشر، يدافع عن الإنسانية النظرية ويؤمن بالقدرة الإبداعية الفاعلة لحركة التاريخ، في حين كان سارتر ينتقد بشدة الاتجاهات البنيوية الجديدة ويعتبر أنها تكرس «استبدادية الأنساق المغلقة» وتلغي مفهوم الإرادة الحرة المسؤولة.
هل خرج الفيلسوف من الميدان العمومي وانتهى دوره المجتمعي بعد مرور أكثر من أربعين سنة على ذلك الجدل بين سارتر وفوكو؟ لا مناص من الاعتراف بأن الفلاسفة ابتعدوا عن الأضواء ولم يعودوا يصنعون الرأي العام أو يوجهونه.. ومن هنا غرابة إدغار مورين في عالم اليوم.
د. السيد ولد أباه
أكاديمي موريتاني