تحت جنح الظلام، غادر آخر الجنود الأميركيين المرابطين في قاعدة باغرام الجوية الكبيرة في أفغانستان، مطفئين الأضواء وراءهم. لم يخبروا قائد القاعدة الأفغاني الجديد، وقبل أن يستطيع هذا الأخير تسلم السيطرة على القاعدة، كان الناهبون قد نهبوا ما استطاعوا إليه سبيلاً في المركز السابق للحرب الأميركية ضد حركة «طالبان».
ومن الواضح أن الأميركيين كانوا يريدون الانسحاب بشكل سري لأسباب أمنية. لكن الانسحاب المتسرع تم من دون تنسيق مع الجيش الأفغاني، إذ تركوا وراءهم آلاف المركبات، الكثير منها من دون مفاتيح، وقاعدة من دون كهرباء. كما لفت الكثير من الانتباه إلى الرسالة التي يبعث بها، وخاصة من قبل الأفغان أنفسهم، مع نوع من الشعور بالتخلي.
وفي هذا الصدد، يقول تيمور شاران، وهو نائب وزير سابق في الحكومة الأفغانية: «يبدو لي الأمر أشبه بفرار في هذه المرحلة، وليس تحملاً للمسؤولية»، مضيفاً: «أجل، صحيح أنهم قاموا باستثمار كبير جداً في هذا البلد، والكثير من الأفغان يقدّرون ذلك. لكن طبيعة هذه المغادرة تثير أيضاً الكثير من مشاعر الإحباط والخيبة».
وبالنسبة للورانس كورب، وهو مساعد سابق لوزير الدفاع الأميركي، فإن الانسحاب بهذه الطريقة يثير أسئلة أكبر بشأن القيم والأولويات الأميركية، إذ يقول: «إن الأمر يتعدى حقاً أفغانستان لأنه يتباين جداً مع ما كنا نسمعه حول كيف أن الشعار تحول الآن من (أميركا أولاً) إلى (أميركا عادت) وإنها مستعدة لتكون الزعيم العالمي الذي يتحلى بروح المسؤولية». ولا شك في أن سلوك الأميركيين الأسبوع الماضي أضعف تلك الرسالة، يقول كورب.
غير أنه من منظور الجيش الأميركي، فإن هذه الأسئلة تبدو ثانوية، إذ قال المتحدث باسم البنتاغون جون كربي هذا الأسبوع: «عندما نتحدث عن هذا الانسحاب، فإننا نتحدث عنه كونه آمناً ومرتباً»، مضيفاً: «وآمن هي الكلمة الأولى».
وفي نهاية المطاف، «ليست هناك أبداً طريقة جيدة للانسحاب في وضع مثل هذا»، كما يقول ريتشارد كون، كبير المؤرخين السابق للقوة الجوية الأميركية. وبعد الفشل في الفوز في الحرب التي دامت لعقدين، «فإن المرء لن يقوم بذلك في جو تلوّح فيه الأعلام وتعزف الموسيقى».
وأكثر ما صدم كورب باعتباره «أمراً شائناً» بشأن الانسحاب من باغرام، هو تجاور الرسالة الوداعية المخيّبة لآمال الجيش الأفغاني والحديث الجميل للرئيس جو بايدن عن عودة أميركا إلى الساحة العالمية كلاعب يتحلى بالأخلاق وكشريك جدير بالثقة.
إنه «درس فظيع إلى الأفغان، مفاده أن الأميركيين لا يكترثون لنا حقاً، على الرغم مما قالوه للرئيس الأفغاني أشرف غني في البيت الأبيض الشهر الماضي»، يقول كورب الذي عمل في إدارة الرئيس دونالد ريغان.
الانسحاب المتسرع صدم بعض المراقبين أيضاً لأنه لا يعكس «العلاقة المستمرة مع الولايات المتحدة»، والتي وعدت بها إدارةُ بايدن الحكومةَ الأفغانية.
ولكن بالنسبة لآخرين، فإن المغادرة المتسرعة، مع ما تنطوي عليه من عدم الاحترام لشريك للولايات المتحدة منذ سنوات، أرسلت إشارة بأن شيئاً ما ليس على ما يرام، لأنها أتت في أعقاب زيارة الرئيس بايدن إلى أوروبا، الزيارة التي دامت أسبوعاً وكان الهدف منها طمأنة الشركاء الدوليين بأن الولايات المتحدة مستعدة لاستئناف دورها كزعيمة عالمية وحاملة لواء الأخلاق.
غير أنه على الرغم من قوة التباين في هذه الحالة بين الخطاب والعمل، يقول بعض المحللين، فإن العديد من حلفاء الولايات المتحدة وشركائها جد مرتاحين لعودة شكل من أشكال الزعامة الأميركية المتوقعة، لدرجة أن واشنطن قد تحصل على «إعفاء» لطريقة خروجها من باغرام.
ويقول هيو لوفات، الباحث بمكتب «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية» في لندن: «إن مصدر القلق الرئيسي بالنسبة للأوروبيين الذين كانوا شركاء للولايات المتحدة في أفغانستان كان هو تنسيق الانسحاب والحصول على «إخطار» بشأن القرارات المهمة. وطالما أن ذلك هو ما حدث، فإنني لا أتوقع أنهم سيسعون إلى مؤاخذة الولايات المتحدة بسبب جانب واحد من الانسحاب».
كربي قال للصحافيين في مؤتمر صحفي في البنتاغون، يوم الثلاثاء الماضي: «لقد أنفقنا الكثير من الوقت، والكثير من الجهد، والكثير من الموارد، لتحسين كفاءة قوات الأمن الوطني الأفغاني وقدراتها»، مضيفاً: «والآن حان دورهم». وإلى ذلك أضاف قليلاً من السياسية الواقعية؛ إذ قال: «بصراحة، إن الأمر يتعلق حقاً بالتركيز على ما نعتقد، كبلد، أنها تحديات أكبر للأمن القومي الأميركي». ومن بين تلك التحديات، يضيف كربي، الصين وروسيا.
وعلى المدى القصير، يعني الانسحاب أن أميركا «ستتأثر بكل تأكيد بالضرر الذي سيلحق بسمعتها العسكرية بعد حملة دامت عشرين عاماً عجزت خلالها عن القضاء على حركة تمرد»، كما يقول الجنرال المتقاعد ديفيد بارنو، القائد الأميركي في أفغانستان بين عامي 2003 و2005.
إلا أن ذلك لا ينبغي أن يجعل حلفاء عسكريين للولايات المتحدة منذ فترة طويلة يشكّون في وفائها، إذ يقول بارنو: «لا أعتقد أن الأفغان وحلفاءنا حول العالم سيقولون إننا صديق في وقت الرخاء فقط. ذلك أن مليارات ومليارات الدولارات و20 عاماً تمثل استثماراً كبيراً جداً بالنسبة لحرب في واحد من أفقر البلدان وأبعدها في العالم».
بيد أن تجربة الانسحاب الأميركي من العراق في 2011، حيث عاد الجنود الأميركيون لمحاربة تنظيم «داعش» بحلول 2014، تثير بالفعل سؤالاً ملحاً، حسب بارنو: «هل ستكون هذه حرباً تستطيع الولايات المتحدة بالفعل الانسحاب منها؟».
هاورد لافرانتشي
صحفي أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»