رأينا الأسبوع الماضي ما تميزت به النسخة الرابعة والسبعون من مهرجان كان السينمائي عن سابقاتها بوضعها البيئة وقضايا التغير المناخي في قائمة الأولويات، وهو ما لم تحظ بها في أي مهرجان عالمي آخر، وقلنا إن هذه المبادرات التي تطلق لأول مرة قد يكون لها نتائج أكثر تأثيراً على مسار التعاون الدولي في مجال تغير المناخ، لأنها تخاطب وتشرك مكونات المجتمع الدولي المختلفة خاصة أجيال المراهقين. وأقول هذا الكلام خاصة مع الأرقام الحديثة والمخيفة التي أصدرتها بعض المنظمات الدولية كالوكالة الدولية للطاقة التي حذرت من أن الانبعاثات العالمية لثاني أكسيد الكربون يُفترض أن تبلغ مستوى قياسي عام 2023، وأن تستمر في الارتفاع بعده، نظراً إلى الحصة الضئيلة المخصصة للطاقات النظيفة في خطط الإنعاش الاقتصادي لمرحلة ما بعد كوفيد، فقد أعلنت الوكالة أن الدول أنفقت مبالغ غير مسبوقة لمواجهة الوباء، لكنها لم تخصص للأسف إلا 2 في المائة من الأموال للانتقال إلى الطاقات النظيفة.
ظن العديد من المتتبعين والغيورين على مستقبل الكرة الأرضية أن جائحة كوفيد-19 ستحل مشكلة التغير المناخي، وستشكل رافعة لإطلاق تحرك مناخي عالمي وهادف لتقليص صافي الانبعاثات إلى العدم، من خلال إجراء تحويل كامل لمختلف أنواع الصناعات وأنظمة الطاقة والنقل... ولكن في هذه المرحلة، ذهب القسم الأكبر من التدابير المالية المعلنة البالغة قيمتها 16 ألف مليار دولار إلى النفقات الصحية والدعم العاجل للشركات والأسر. وخُصصت حوالي 2300 مليار دولار للإنعاش الاقتصادي بينها 380 مليار مرتبطة بمشاريع «مستدامة» في مجال الطاقة. وبناء عليه، ونظراً إلى التوقعات الحالية للنفقات العامة، تتجه انبعاثات ثاني أكسيد الكربون إلى بلوغ مستويات قياسية عام 2023 والاستمرار في الارتفاع في السنوات التالية.
إذا صحت معطيات الوكالة الدولية للطاقة، وإذا استمر مستوى تركيز ثاني أكسيد الكربون في الارتفاع، فإن الغازات المسببة لمفعول الدفيئة الحرارة ستحبس أكثر وأكثر في الغلاف الجوي مما سيؤدي إلى ارتفاع كبير لدرجات الحرارة وإلى تفاقم الأوضاع المناخية القصوى وذوبان الجليد، وارتفاع مستوى مياه البحار وازدياد حموضة المحيطات.
إن جل الخبراء مقتنعون بأن هناك الكثير مما يتعين القيام به في جميع أنحاء العالم بحلول عام 2030 كي تظل درجات الحرارة العالمية أقل بدرجتين مئويتين لتصل إلى مستويات ما قبل الثورة الصناعية، بحسب ما اتفق عليه ما يقرب من 200 دولة في قمة باريس عام 2015، ولكن كل المؤشرات لا تبشر بالخير. فالجميع يتحدث عن أهمية البناء بشكل أفضل من أجل مستقبل صحي أكثر، ولكن الأقوال لا تُحوّل إلى أفعال.
وتكفي الإشارة إلى أن العديد من دول العالم، توجه نفقاتها إلى المسائل الصحية، والدعم العاجل للشركات والأسر، كما أن جل الدول تسجل عجزاً قياسياً في سنة 2021 بسبب النفقات الهائلة لإنعاش الاقتصاد بعد جائحة كورونا. وتعرض الحكومات تباعاً مشاريع ميزانيات معدلة تشمل تدابير طوارئ إضافية ستستخدم خصوصاً لتمويل النشاط الجزئي والمساعدات المحددة للشركات التي تواجه صعوباً، كما أن الإنفاقات الجديدة ستدفع الدول إلى مزيد من الاقتراض في سياق ارتفاع معدلات الفائدة.
كنت أتمنى مع بروز القطاع التكنولوجي كأبرز القطاعات التي شهدت انتعاشاً استثمارياً سريعاً خلال أزمة كورونا، أن يصاحبه تسريع بناء محطات احتجاز ثاني أكسيد الكربون من الهواء مباشرة باستعمال أهم التكنولوجيات الحديثة، ومثل هذه المحطات قد تسهم في تبريد كوكب الأرض من خلال سحب ثاني أكسيد الكربون من الهواء. ولكن للأسف لم تساهم جائحة «كوفيد-19» إلا في توسيع قاعدة الطلب ونمو التجارة الإلكترونية وزيادة الحاجة إلى المعدات والبرمجيات لتسهيل العمل عن بعد، وإذ أدت كل هذه العوامل إلى زيادة النفقات الرأسمالية لشركات التكنولوجيا فإن توجهاتها لم تشمل قضايا المناخ البتة.
تعهد إيلون ماسك مؤخراً بدفع مبلغ 100 مليون دولار لبناء محطات احتجاز ثاني أكسيد الكربون من الهواء موازاة مع استثمار شركات مثل «مايكروسوفت» و«يونايتد آيرلاينز» و«إكسون موبيل» مبالغ تتجاوز مليار دولار في مشروعات في هذا المجال، ولكن من دون إرادة سياسية من الدول ومن القوى المجتمعية الحية المؤثرة، فإن الانبعاثات العالمية لثاني أكسيد الكربون ستستمر وستقضي على الأخضر واليابس.