كان يفترض أن يكون يوماً حزيناً للذكرى، يوماً وطنياً لاستحضار جرائم الماضي. ففي شهر يوليو المنصرم، أحيت فرنسا الذكرى الـ79 لحملة اعتقالات «فيل ديف» إبان الحرب العالمية الثانية، عندما أوقفت الشرطة الفرنسية واعتقلت أكثر من 13 ألف يهودي باريسي في ملعب غير بعيد عن برج إيفل. معظم الموقوفين رحِّلوا في نهاية المطاف إلى معسكرات الاعتقال النازية، ومعظمهم تعرض للقتل. ولهذا، تظل حملة «فيل ديف» واحداً من أكثر الأيام قتامة في التاريخ الفرنسي، وعن حق.
ولكن التطور الجنوني لحملة مناهضة التلقيح في فرنسا، التي ارتدى فيها عدد مهم من المحتجين نجمات صفراء مثل تلك التي أُرغم النازيون اليهود على ارتدائها خلال الاحتلال، حوّل لحظة تأمل في الماضي إلى نظرة قبيحة على الحاضر. وكان ذلك تذكيراً بهشاشة الماضي وسط فوضى الحاضر.
فبينما تدخل شروط «جواز السفر الصحي» التي فرضتها الحكومة حيز التنفيذ، أصبح الجانب القاتم من التردد في تلقي اللقاح أوضح مما كان عليه دائماً. فقبل بضعة أيام، احتج نحو 160 ألف شخص، من بينهم نشطاء من اليمين المتطرف، عبر البلاد ضد الإجراءات الحكومية.
وفي 16 و17 يوليو، عمد متظاهرون مناهضون للتلقيح إلى تخريب عيادتين للتلقيح في فرنسا. وفي مشهد عنيف بشكل خاص، اقتحموا مبنى بلدية مدينة شامبيري الفرنسية جنوب شرق البلاد ومزقوا صورة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي قالت حكومته إن المواطنين غير الملقَّحين لن يستطيعوا الوصول إلى العديد من الأماكن العامة، مثل المتاحف وقاعات السينما، اعتباراً من الأربعاء قبل الماضي. ويناقش المشرّعون حالياً ما إن كان ينبغي تمديد تلك القيود لتشمل المطاعم والمقاهي بحلول أغسطس.
ولأسباب مختلفة، كانت مشاعر مناهضة التلقيح مرتفعة أصلاً في فرنسا حتى قبل وصول لقاحات فيروس كورونا. ولكن ربما رداً على قوانين ماكرون الجديدة، بات الجمهور، الذي كان جد مشكك في اللقاحات الجديدة، أكثر من مستعد الآن لتلقيها. وحملة التلقيح الحكومية التي كانت بطيئة في البداية ازدادت سرعة الآن، وأخذ الناس يحصلون أخيراً على جرعاتهم. وعلى الرغم من العنف الذي طبع بعض المظاهرات المناهضة للتلقيح، فإن ذلك لا يعبّر عن موقف الغالبية.
بيد أن تلك المظاهرات تظل مقلقة مع ذلك، وخاصة بالنظر إلى الكيفية التي تهين بها ذكرى الماضي، وذكرى الهولوكست بشكل خاص.
والواقع أن هذه ليست قصة فرنسية فقط. إذ سبق لعضو مجلس النواب الأميركي مارجوري تايلر جرين، الجمهورية عن ولاية جورجيا، أن قامت أيضاً على نحو متكرر بعقد تشبيه مسيء مع الهولوكوست من أجل معارضة إجراءات احترازية ضد فيروس كورونا. ففي مقابلة معها في مايو الماضي، قالت جرين: «نستطيع النظر إلى الوراء واستحضار زمن وتاريخ كان يؤمر فيه الناس بارتداء نجمة ذهبية»، مضيفة: «وكانوا من دون شك يعامَلون كمواطنين من درجة ثانية، لدرجة أنهم كانوا يوضعون على متن قطارات ويُقتادون إلى غرف الغاز في ألمانيا النازية» (تحت انتقادات حادة، اعتذرت جرين لاحقاً بعد زيارة إلى متحف الهولوكوست الأميركي).
ولكن، لماذا رد الفعل التلقائي هذا دائماً؟ في أوروبا والولايات المتحدة، الأمر يتعلق بأشخاص يبحثون عن وضع الضحية من دون أن يكونوا قد تكبدوا أي معاناة البتة، ولكن من الواضح أيضاً أن لديهم هوساً مرضياً بالقتل الجماعي لليهود الأوروبيين، وهو حدث يشعرون على نحو ما بأنه يحق لهم ليّه وتطويعه خدمة لأهدافهم.
فهذا، في نهاية المطاف، هو الهدف الأكبر للتشبيهات السهلة والسخيفة بالهولوكوست: استخدام الحدث في كثير من الأوضاع لدرجة يصبح معها من دون معنى، ولا يعود شيئاً يستحق أن يؤخذ على محمل الجد، ذلك أن هذه التشبيهات تجرِّد الحدث من فظاعته وتُضعف ذكراه.
وفي فرنسا بشكل خاص، هذه معركة مستمرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
فكثيراً ما ينسى الناس إلى أي حد كانت فرنسا ساحة معركة من أجل بناء ذكرى الهولوكست خلال السنوات الأولى التي تلت الحرب. ففرنسا هي البلد حيث أسس الحاخام والصناعي إسحاق شنيرسون «مركز التوثيق اليهودي المعاصر»، عام 1943، حتى قبل أن تضع الحرب أوزارها، والذي يمكن القول إنه شكّل أول محاولة مهمة لصيانة ذكرى الهولوكوست في أوروبا الغربية. وفي فرنسا أيضاً، حيث وجدت حركة إنكار الهولوكست أوائل أنصارها وأشهرهم، مثل الكاتب والناقد موريس بارديش في أواخر الأربعينيات، ولاحقاً، الكاتب روبر فوريسون.
القانون الفرنسي يحظر الآن إنكار الهولوكست، غير أن الإساءة إلى ذكرى الماضي – وإعادة كتابته- ما زالت مترسخة بشكل عميق. فهذا جون ماري لوبين، الأب الروحي لليمين المتطرف الفرنسي، أدين عدة مرات بسبب وصفه غرف الغاز بأنها مجرد «تفصيل» في تاريخ الحرب العالمية الثانية. وابنته مارين لوبين قالت خلال حملتها الرئاسية في 2017 إن فرنسا لم تكن مسؤولة عن حملة «فيل ديف». هذا هو مكمن الخطر.
وخلاصة القول إنه عندما يتظاهر المتظاهرون المناهضون للتلقيح بنجمات صفراء، فإنهم يذكّروننا بأكثر من القدرة البشرية على الغباء والقسوة. إنهم يذكّروننا بأنه إلى أي حد تظل ذكرى الماضي هشة دائماً!
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»