ظهرت مجدداً في وسائل الإعلام الروسية مجموعة أيقونية من الصور التي التُقِطت قبل 32 عاما، تصور قائد «الوحدة المحدودة» التابعة للاتحاد السوفيتي في أفغانستان، الجنرال بوريس جروموف، وهو يخطو عبر جسر الصداقة بين أوزبكستان وأفغانستان في أوائل 1989، حيث خرج آخر جندي من قواته من البلاد بعد تسع سنوات من المحاولات الفاشلة لفرض النظام الموالي للسوفييت.
إن الانسحاب السريع للولايات المتحدة من أفغانستان الذي يحدث الآن يعيد لكثير من الروس مشهدا سبق رؤيته. ومع ذلك، هذه المرة ليست قواتهم هي التي تنسحب في حالة هزيمة، ولكن قوات حلف شمال الأطلسي المناوئ، والتي، بعد نحو 20 عاما، لا يمكن أن تدعي تحقيق أي نجاح عسكري أفضل مما حققه الروس.
لا عجب أن تظهر بعض الشماتة في تعليقات وسائل الاعلام الروسية. لكن الشعور الطاغي هو شعور بعدم اليقين وحتى الرهبة. إن الانسحاب السوفييتي من أفغانستان هو ذكرى مؤلمة تلقي بثقلها على جميع عمليات صنع القرار الحالية، ويرجع ذلك أساسا إلى أن الفوضى التي أعقبت ذلك أدت إلى ما لا يقل عن عقد من الكوارث، بدءا بانهيار الاتحاد السوفييتي نفسه –على الأقل جزئيا بسبب ضغوط الحرب الأفغانية.
كما أدت إلى حرب أهلية استمرت خمس سنوات في طاجيكستان المتحالفة مع روسيا، حيث لجأ المقاتلون المناهضون للحكومة إلى أفغانستان المجاورة المضطربة. هذا إلى جانب توغلات المسلحين الإسلاميين، المتمركزين في أفغانستان، في أوزبكستان المجاورة. وواجهت روسيا نفسها، التي كانت شديدة الضعف آنذاك، تمردات الإسلاميين في منطقة شمال القوقاز المسلمة، والتي نشرت الأعمال الإرهابية المميتة في قلب روسيا لسنوات عديدة.
يقول فلاديمير سونتيكوف، الخبير في المعهد الرسمي للدراسات الشرقية في موسكو: «تجربة روسيا في أفغانستان في الثمانينات وما أعقبها كانت مؤلمة». ولا تزال تلك الصدمة متأصلة في مشاعر المسؤولين الروس والأشخاص العاديين على حد السواء.
ويضيف: «الآن، بينما نشاهد ما يبدو وكأنه رحيل أميركي متسرع وفوضوي من أفغانستان، فإن ذلك يثير الكثير من المخاوف. كما أنه يحد بشكل صارم مما يمكن لروسيا أن تفعله مع تطور الوضع. وبسبب التجربة الماضية، لا يوجد أي احتمال على الإطلاق بأن موسكو ستقوم بإدخال حتى أصغر قوة عسكرية في أفغانستان».
وأدت سرعة الانسحاب الأميركي والتقدم السريع لـ«طالبان» الذي أعقب ذلك إلى زيادة الشعور في موسكو بأن التاريخ ربما على وشك أن يعيد نفسه.
قال وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف الأسبوع الماضي: «لقد ازدادت حالة عدم اليقين بشأن تطور الوضع العسكري السياسي في هذا البلد وما حوله. ولسوء الحظ، شهدنا في الأيام الأخيرة تدهورا سريعا للوضع في أفغانستان...من الواضح أنه في الظروف الحالية هناك مخاطر حقيقية من انتقال هذه الحالة من عدم الاستقرار إلى الدول المجاورة».
وقد لجأ أكثر من ألف جندي من القوات الحكومية الأفغانية مؤخرا إلى طاجيكستان المتحالفة مع روسيا، حيث سرعان ما احتلت قوات «طالبان» المعابر الحدودية لتلك الجمهورية، وكذلك إلى أوزبكستان وتركمنستان، وهما من الجمهوريات السابقة للاتحاد السوفييتي. وأصدرت الدول الثلاث أوامر بالتعبئة العسكرية. وتعهدت موسكو بتقديم الدعم الكامل لحلفائها الإقليميين في منظمة الأمن الجماعي، والتي تضم طاجيكستان وكازخستان وقيرعيزستان (وليس أوزبكستان وتركمانستان).
وقال فيكتور بارانتيس، المتحدث العسكري السابق الذي يعمل الآن كاتب عمود في صحيفة كومسومولسكايا برافدا اليومية: «التهديد لطاجيكستان حقيقي، ولا يقتصر على خطر الهجوم، ولكن قد يكون بين اللاجئين القادمين إلى البلاد جميع أنواع الناس، مثل الجواسيس ومبعوثي «طالبان». وتخشى روسيا أن تنتشر هذه العدوى إلى جمهوريات أخرى، مما يؤدي إلى إراقة الدماء، وربما حتى حرب أهلية، ويدعو إلى التدخل الروسي... إن روسيا تواجه مشاكل داخلية كثيرة، لذلك طلب بوتين من طاجيكستان أن تعزز جيشها، وتضاعف قوات حرس الحدود، وتحاول حماية نفسها».
بيد أن العديد من خبراء الأمن الروس يجادلون بأن الظروف مختلفة تماما عما كانت عليه قبل 30 عاما. فقد أصبحت روسيا وحلفاؤها في آسيا الوسطى أكثر استقرارا، وتغيرت «طالبان» كثيرا بعد 20 عاما من القتال الشرس ضد «الناتو». وفي أوائل يوليو، زار وفد من «طالبان» موسكو، وأعطى، بحسب ما ورد، تأكيدات لروسيا بأنهم لن يسعوا لتوسيع نزاعهم مع الحكومة المركزية في كابول ليمتد إلى خارج البلاد.
أحد الأسئلة المطروحة هو ما إذا كانت روسيا ستوافق على إنشاء قواعد عسكرية أميركية في دول آسيا الوسطى المجاورة –بعد إجبارها على إغلاق قاعدتين في قيرغيزستان وأوزبكستان قبل عقد من الزمان –حتى تحافظ القوات الأميركية على الدعم المباشر للحكومة الأفغانية خلال الأوقات العصيبة المقبلة.
غالبا ما يُنسى أن روسيا دعمت- وبقوة- احتلال «الناتو» لأفغانستان قبل 20 عاما، وسمحت للولايات المتحدة باستخدام المجال الجوي الروسي في سلسلة إعادة الإمداد، وحثت «الناتو» مراراً وتكراراً على عدم مغادرة أفغانستان حتى تنتهي مهمة تحقيق الاستقرار في البلاد. ولكن في ظل تدهور العلاقات بين موسكو وواشنطن بشكل عام في السنوات الأخيرة، ازداد غضب روسيا من الوجود الأميركي المستمر، وتزايدت الشائعات المثيرة للجدل عن معارضة الكرملين.
يبدو أن هناك احتمالا ضئيلا أن توافق موسكو على وجود قواعد أميركية جديدة في منطقة، حيث كانت، إلى جانب الصين، تواجه متاعب لتطهير التأثيرات العسكرية الأجنبية. لكن التقارير الإخبارية الروسية تشير إلى أنه خلال قمة جنيف الشهر الماضي، ربما يكون بوتين قد عرض على الرئيس جو بايدن استخدام القواعد الروسية الموجودة في طاجيكستان وقيرغيزستان، على الأقل لتشغيل طائرات من دون طيار لمراقبة الوضع في أفغانستان.
والقضية المهمة الأخرى بالنسبة لموسكو هي ازدياد إنتاج المخدرات الذي حدث أثناء إشراف «الناتو» في أفغانستان.
يقول أندريه كورتونوف، رئيس مجلس الشؤون الدولية الروسي: «في الواقع إذا كانت هناك بعض الجهود للحد من المخدرات، ولم تعد أفغانستان قاعدة للعمليات الإرهابية ضد جيرانها، أعتقد أن موسكو يمكن أن تعيش بشكل مريح مع حكومة طالبان المستقبلية في كابول».
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»