في فرنسا خرجت مظاهرات عارمة تجاوزت مائة ألف متظاهر ضد فكرة «الجواز الصحي» ومقترحات التلقيح الإلزامي لمواجهة الموجة الرابعة من جائحة كورونا، في تحد صريح للسياسات الصحية العمومية.
وفي ألمانيا واليونان والولايات المتحدة، حدثت تظاهرات مماثلة من حزب «المعادين للتلقيح» الذي يبدو أنه أصبح قوة سياسية بارزة في جل المجتمعات الغربية.
ما يطرحه هذا التيار الجديد يتجاوز السياسات الصحية والموقف من الإجراءات الاحتياطية والعلاجية لمواجهة الفيروس القاتل، ويتعلق بالرؤية العميقة للحرية الفردية من حيث نمط تدبير الجسد في علاقته بالدولة والسلطة العمومية.
ما يطرحه المعادون للجواز الصحي والتلقيح الإلزامي هو الدفاع عن حرية الفرد وحرمة جسمه، ورفض إجراءات التمييز على أساس التحصين و العدوى، إلى حد الغلو في النظر إلى السياسات الاستباقية الاحترازية الراهنة.
لقد تزامنت هذه الحملات مع انتشار إشاعات مثيرة من قبيل أن الموجة الفيروسية الحالية مفتعلة من أجل تقويض الحريات العامة وسيطرة الدولة البيروقراطية على المجتمع، وأن التقنيات التلقيحية الجديدة تهدف إلى التصرف الجيني في أجساد وعقول الأفراد لخلق ريبوتات مطيعة لا إرادة لها، بل ذهب البعض إلى اتهام المختبرات الصيدلية بالسعي إلى القضاء على ملايين البشر (خصوصاً في أفريقيا وآسيا) عن طريق التلقيحات الجديدة التي لم تحترم الآجال الموضوعية المحددة علمياً لإنتاج الأدوية القابلة للاستخدام لدى البشر.
وتفيد استطلاعات الرأي أن نسبة التردد إزاء التلقيح في فرنسا تصل إلى 40 بالمائة من السكان، وهي النسبة التقريبية في مجمل دول أوروبا، في الوقت الذي تؤكد الدراسات الطبية الأخيرة أن التغلب على الوباء الحالي في ضوء انتشار الفيروسات المتحورة الأخيرة يتطلب تحقيق مناعة جماعية في حدود 90 بالمائة.
وهكذا نلاحظ بوضوح ظاهرتين خطيرتين هما من جهة الانزياح الواسع على مستوى العالم بين البلدان التي استطاعت توفير اللقاحات لمواطنيها، وهي إجمالاً الدول الصناعية الغربية الغنية، والدول الجنوبية الفقيرة المحرومة من هذا الحق بما يرتبط بهذا الإشكال من موضوعات جيوسياسية وديبلوماسية معقدة، ومن جهة أخرى الصراع المحتدم بين أنصار التلقيح وأعدائه في عموم بلدان العالم.
وإذا كان الإشكال الأول يتطلب وقفة مطولة ليس هذا مجالها، فإن الإشكال الثاني، كما أشرنا من قبل، يرتبط بالنقاش الفكري الدائر راهناً حول نمط التدبير العمومي للجسد.
لقد ظهرت كتابات عديدة في السنة الأخيرة تحذّر من التصور البيولوجي للإنسان الذي يختزل حقوق الإنسان في حفظ صحته في مقابل حقوقه الأساسية التي تم تقويضها أو تقليصها لأسباب صحية. ومن الواضح أن هذه الكتابات تتغذى مما أطلق عليه مؤرخا العلم الأميركيين «اورسكيس» و«كونواي» عبارة «باعة الشك»، وهم فئة من المؤلفين والكتاب الذين يشككون في الحقائق العلمية البديهية لأغراض أيديولوجية أو سجالية.
فإذا كانت العقيدة الليبرالية التقليدية تتبنى مقاربة فردية سلبية للحرية تمنح الأولوية لإرادة الإنسان على حساب مبدأ المسؤولية الجماعية، فإن التصورات الاجتماعية و العمومية للحرية التي سادت في المنظومات الليبرالية المعاصرة، تربطها بمعايير التضامن والاندماج والعدالة والإنصاف التي تدخل في مفهوم المسؤولية المشتركة.
ففي حين يستند خصوم التلقيح الإلزامي إلى التصور الأول من أجل الدفاع عن حق الفرد في إدارة وضبط قواه الجسدية التي تدخل في نطاق خصوصيته الحميمة، فإن السياسات الصحية العمومية تتبنى التصور الثاني الذي يجعل من أولى أوليات الدول حماية الجسم الجماعي ولو من خلال التشريعات التقييدية المؤقتة.
الفرق هنا هو بين منطق الوقوف ضد الإكراه التلقيحي الذي من الصعب الدفاع عنه من منظور ليبرالي محض ومنطق الحرية التلقيحية التي لا يمكن أن تدرك إلا من حيث هي تجاوب إيجابي مع السياسات العمومية الهادفة إلى توفير شروط ممارسة الحرية الفعلية بالتغلب على التهديد الفيروسي الذي فرض إغلاق الدول وتقييد حقوق وحريات الأفراد.
ما يتعين التنبيه إليه هنا أن الجسد وإن كان في جانب منه مكمن الخصوصية والذاتية الفردية، فهو أيضاً في الوقت نفسه داخل في الحركية الاجتماعية العامة. ومن هنا ندرك أن مختلف التشريعات القديمة والحديثة تتمحور حول الجسد عقاباً وترويضاً واستغلالاً عبر مركبات القانون والاقتصاد والأخلاق (بما لا يتسع المقام لتفصيله). فلا سبيل إذن للاحتماء بحرمة الجسد وخصوصيته من أجل الوقوف ضد السياسات الصحية العمومية، ولو كانت حقوق الكرامة الجسدية في صلب المدونة الحقوقية الحديثة.