قبل 30 عاماً تقريباً، كان «يوفيسا ستانيسيتش» و«فرانكو سيماتوفيتش» يدربان ويصدران التعليمات لميليشيات ارتكبت بعضاً من أفظع الجرائم في حقبة ما بعد الحرب الباردة. وجرى الإدعاء بأن ميليشياتهما نفذت مذابح في المستشفيات وجرفت قرى وأطلقت النار على سجناء ضمن مسعى تطهير البوسنة وكرواتيا من غير الصرب. وفي الأيام القليلة الماضية، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية التي أسستها الأمم المتحدة عام 1993 لمحاكمة جرائم الحرب التي اُرتكبت اثناء التفكك الدموي ليوغسلافيا، حكماً على ستانيسيتش، رئيس جهاز الأمن في كرواتيا في تسعينيات القرن الماضي، وعلى سيماتوفيتش، نائبه في الجهاز، عما ارتكباه من جرائم. ويرى أنصار المحكمة الدولية أن هذا الحكم الذي طال انتظاره يثبت أن القانون الدولي قادر على تطبيق العدل على مرتكبي فظائع حروب البلقان.
وكان الزعيم الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش قد توفي عام 2006 أثناء محاكمته في لاهاي وفي عام 2013 تم إسقاط حكم صدر على جنرال صربي من قبل.
وذكر موقع المحكمة الجنائية الدولية على الإنترنت أن المحكمة «أثبتت أن المشتبه في ضلوعهم في أعمال وحشية اُرتكبت أثناء صراعات مسلحة يمكن إخضاعهم للمساءلة. لكن هذا صحيح فعلاً؟ فمثول النظام الصربي الذي حرض على حروب البلقان لم يحدث إلا عام 2000، حين حاول ميلوسوفيتش سرقة انتخابات خسرها وتمرد مواطنو بلاده في ثورة غير عنيفة. وفي نهاية المطاف، رفض معاونو «ميلوسوفيتش» إطلاق النار على المحتجين أثناء اقتحامهم مقر البرلمان في بلجراد. واستولت جماعة جديدة على السلطة في عام 2003 واعتقلت الشرطة الصربية ستانيسيتش وسيماتوفيتش، مثل ميلوسوفيتش نفسه، ونقلوا إلى لاهاي.
وهذا هو السيناريو النموذجي لبداية تطبيق العدل ومثول المشتبه بهم أمام القضاء. فقد وجهت المحكمة الجنائية الدولية التي خلفت المحاكم التي شكلت من أجل يوغسلافيا وراوندا، الاتهام رسمياً للرئيس السوداني السابق عمر البشير عامي 2009 و2010 بارتكاب جرائم حرب في دارفور. وحتى العام الماضي فحسب، لم يكن هناك احتمال أن يسلم البشير نفسه. بل سافر البشير إلى الخارج من حين إلى آخر دون مخافة الاعتقال. لكن حين أطاحت حكومة سودانية جديدة بالبشير في عام 2019، وافقت الخرطوم على إرسال زعيمها السابق ليمثل أمام القضاء.
هذا يعني أن المحاكم الدولية شكلية إلى حد كبير إلى أن يتم الإطاحة بالزعماء الذين ارتكبوا جرائم حرب من السلطة أو تنهزم جيوشهم. كما أن هذه المحاكم ليست ضرورية لتحديد إدانة أو براءة مجرمي الحرب. ولننظر إلى مثال المحاكمة الطويلة لستانيسيتش وسيماتوفيتش. فقد تم تبرئتهما عام 2013 لأن الإدعاء لم يفلح في إثبات الربط المباشر بين الرجلين وبين الفظائع التي ارتكبتها الميليشيات التابعة لهما. لكن الحكم استؤنف وتمخض الاستئناف في نهاية المطاف عن الحكم الذي صدر في الأيام القليلة الماضية. لكن حكم البراءة لو لم يتغير، فهل هذا يعني أن ستانيسيتش وسيماتوفيتش لم يرتكبا جرائم حرب؟ بالطبع لا. كما أن العالم ليس بحاجة إلى محكمة ليعرف إذا ما كان ميلوسوفيتش كان يحاول تطهير البوسنة عرقياً. فالأدلة نقلتها تقارير كثيرة أثناء تنفيذ حملته. وشناعة الفظائع التي ارتكبتها قواته أجبرت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (ناتو) على التدخل ولو متأخراً.
خلاصة القول إن هناك حججاً تؤيد قيمة المحاكم الدولية، خاصة حين يتعلق الأمر بالأعمال الوحشية والحروب. فهي تقدم فرصة للضحايا لمواجهة جلاديهم. كما تكتب سجلاً تاريخياً، ليس السجل الوحيد لكنه مهم، لجرائم الحرب. وربما تفيد هذه المحاكمات في الضغط على المسؤولين في مراتب القيادة الأدنى على الانشقاق عن أنظمتهم الحاكمة التي ترتكب فظائع. ومن المهم أيضاً أن نفهم حدود هذه المحاكم الدولية، فهي ليس بديلاً عن الثورة أو التدخل. فقد استغرق الأمر ما يقرب من 30 عاماً كي تتوصل المحكمة إلى إدانة ستانيسيتش وسيماتوفيتش. ولولا إطاحة النشطاء الصربيين بالطاغية الذي كان يخدمه الرجلان لربما ظلا مطلقي السراح.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»