عندما نتحدث عن القرن الأول، والعقد الأول والثاني من القرن الثاني الهجريين، نكون نتحدث عن جيلِ الإسلامِ المبكرِ، الذي لم يبتعد عن «صحيفة يثرب»(العام الأول الهجري) كثيراً، وكانت مدنيّة بامتياز، لم تُحاسب على اختلاف الدِّين، بقدر ما كانت تُحاسب على الموقف مِن يثرب وأهلها، وإلا مِن حقِّ الجميع، بما فيهم مَنْ أشارت إليهم بالمشركين، العيش بأمان وأحرار بديانتهم، إذا لم يعينوا عدواً.
عمَّا سنذكره، لم يتضاعف التأويل بعد، فالمذاهب لم تتشكل حينها، ولا وضع الأحاديث الكثيرة في غير المسلمين يظهر، ولم يؤسس «النَّاسخ والمنسوخ»، مرافقاً لتفسير القرآن ومُعتمداً في الفقه والقضاء، وقد نسخ آيات الانفتاح على أهل الكتاب، ولم تظهر بعد كتب «أحكام أهل الذِّمة»، ولا «الأحكام السُّلطانيَّة»، ولا كتب الحِسبَة.
نذكر للخليفة عمر بن عبد العزيز بن مروان(ت: 101هجريَّة)، ولأمير مكة ثم العِراق خالد بن عبد الله القَسريِّ(قُتل: 126هجريَّة)، ممارستيهما إزاء المسيحيَّة، فمَن يقرأ عن التَّطبيقات المتشددة، مع غير المسلمين، سيُدهش مما فعله الخليفة والأمير. أوصى ابن عبد العزيز، عندما مُرض وهو بدير سَمْعَانِ، الكائن بنواحي دِمشق والمحاط بالبساتين والدُّور(الحموي، معجم البلدان)، أن يدفن في تربته، فحسب رواية ابن عمر بن عبد العزيز: «أمرنا أن نشتري موضع قبره، فاشتريناه مِن الرَّاهب»(الطَّبري، تاريخ الأُمم والملوك). قال كُثَير عزَّة راثياً(ت: 105 هجريَّة): «قَد غَادرَ القَومُ باللَّحدِ الَّذِي لَحَّدوا/ بِدَيرِ سَمْعَان قِسطَاسُ المُوَازِنِ»(المصدر نفسه).
لم يكن الشَّاعر يُفكر بتصرف ابن عبد العزيز، بقدر ما كان يرثيه لشخصه، إكباراً بإلغاء سَبِّ العلويين مِن على المنابر، فصاحب عزَّةَ كان محسوباً على فرقة شيعيَّة، المنطلق نفسه الذي رثاه به الرَّضي(ت: 406هجرية)، ويهمنا منه تأكيد المكان: «دَيرُ سَمعَان لَا أُغَيَّبُك غَيَّبَ خَير/مَيِّت مِنْ آلَ مَرْوَانْ مَيِّتِكَ»(سبط ابن الجوزي، الجليس الصَّالح). كذلك لما أخذ بعض الولاة يمتحنون صدق مَن أسلمَ مِن أهل الكتاب، هروباً مِن الجزيَّة، بالختان، كتب له: «إن الله بعث محمَّداً صلى الله عليه داعياً ولم يبعثه خاتناً»(مسكويه، تَجارب الأُمم)، وفي رواية «جابياً».
كانت أمُّ خالد القَسري مسيحيَّةً، فطلب منها ابنها، بعد أنَّ أصبح أميراً، اعتناقَ الإِسلامِ، ولم يفرضه أبوه عليها، لكنْها رفضت وكتبت إليه: «قد قرأت كتابك، فأما دعاؤك إياي إلى دينك فقد نصحتَ لي فيه بجهدك، لأنك ارتضيت لي ما ارتضيت لنفسك، ودينيّ لي ودينك لك»(البَلاذُرِي، أنساب الأشراف). فبعث إليها بمال لبناء كنيسةِ في الدَّار، ولما استقدمها إلى الكوفة، حيث إمارته، بنى لها كنيسةً في دارِ الإمارةِ. تحمل القَسريُّ، على هذا الموقف، مِن الوشاة الكثير، وبالغوا حتَّى قالوا: «يؤجل الأذان حتَّى تُضرب النَّواقيسُ»(المصدر نفسه).
سيقول المعترضون علينا: إنَّ عمر بن عبد العزيز عذب صديقه خُبيب بن عبد الله بن الزُّبير، بسبب اتهامه بالسخريَة مِن نصٍ دينيِّ (اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي)، وأن القَسري قتل الجعد بن دَرهم، تنفيذاً لأمر خليفة زمانه، لمقالته بـ«خلق القرآن»، وهذا متفق عليه. لكن لهذا مقاماً ومقالاً، وما قدمناه له مقامه ومقاله أيضاً، وعلى حدِّ قول بشار بن بُرد(قُتل: 166هجريَّة): «إِذا كُنتُ فِي كُلِّ الأُمُورِ مُعَاتِبًا/ خَلِيلُكَ لَم تَلقَ الَّذِي لَا تُعَاتِبُهْ/ إِذَا أَنتَ لَم تَشرَبْ مِرَارًا عَلَى القَذَى/ ظَمِئتَ وأيُّ النَّاسِ تَصفُو مَشَارِبُهْ»(أبو تمام، الوحشيات).