في عام 1989، كان هناك ما يسوغ استمتاع مجموعة من الصحفيين البريطانيين ببعض الفكاهة تندراً على الرئيس الأميركي جورج بوش الأب الذي لم تكن خطبته سهلة الفهم. فبعد اجتماع رؤساء دول حلف شمال الأطلسي (ناتو)، كان هناك موظف في الحلف يوزع السماعات التي تنقل الترجمة في المؤتمر الصحفي للرئيس الأميركي، وحينها سأل الصحفيون البريطانيون عما إذا كان هناك «ترجمة لكلمة بوش»؟!
لكن بالنسبة لي كصحفي أميركي يحضر لأول مرة اجتماع لرؤساء الناتو، كان التهكم على كلمة الرئيس ربما يطمس حقا الإنجاز الكبير الذي استشعر السيد بوش وفريقه في السياسة الخارجية قرب تحقيقه. وهذا الإنجاز هو التوصل إلى نهاية سلمية للحرب الباردة وإعادة توحيد ألمانيا. والآن بعد مرور أكثر من 30 عاماً، وقائمة طويلة من القمم والاجتماعات، أعود مرة أخرى إلى بروكسل لحضور قمة «ناتو» أخرى وتواجدي في مقر الحلف جعلني أفكر في اجتماعات الناتو التي حضرتها في عهد الرؤساء الخمسة السابقين على جورج بايدن بداية من الرئيس بوش الأب وكلينتون وبوش الابن ثم باراك أوباما ودونالد ترامب.
إنها ثلاثة عقود شهدت خمسة رؤساء وانهيار الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة- سبب وجود الحلف- وهجمات الحادي عشر من سبتمبر وتضامن شركاء الحلف مع الولايات المتحدة، ثم ظهور عالم تلعب فيه أوروبا الدور الثاني بعد آسيا في الاستراتيجية القومية الأميركية. لقد كان كل حدث فرصة لمشاهدة الطريقة التي كان يتصرف بها كل رئيس أميركي في أوروبا، بالإضافة إلى قياس التأثير على تقييم الرأي العام الأوروبي للولايات المتحدة. وبإلقاء نظرة من هذه الزاوية، فما الأمور التي كانت أكثر بروزاً؟ بيل كلينتون الشاب عذب الحديث؟ أم محاولة جورج بوش الابن الفاشلة في تعزيز جاذبيته الشخصية، أم باراك أوباما المترفع والمنزوي خلف نافذة سيارته المضادة للرصاص، أم دونالد ترامب الذي احتقر الحلف ووصف نفسه صراحة بأنه «عبقري متزن تماماً» في مؤتمر صحفي عام 2018؟
لقد كان الأوروبيون ممتنين للرئيس بوش الأب رغم خطبته الملتبسة. ثم خلب لبهم بيل كلينتون الشاب الذي بدا كأنه جذاب وذكي وجريء نوعاً ما، وهي صفات تدعم تصور القارة القديمة عما يجب أن تكون عليه أميركا. ووقعت بلجيكا في غرام كلينتون حين قبل الرئيس الأميركي آلة ساكسفون صنعت خصيصاً له من رئيس بلدية «دينانت» التي ظهرت فيها الآلة الموسيقية المفضلة للرئيس الأميركي. وشعرت بروكسل بالانتشاء حين سار «بيل» عبر منطقة «جراند بالاس» الشهيرة في المدينة ووصل لاحقاً إلى مطعم «سانت مارتين» دون سابق إعلان لينفق نحو نصف ساعة يتحدث مع رواد المطعم المذهولين. وتحدث صاحب مطعم سانت مارتين لاحقاً عما حدث، قائلاً إن السيد كلينتون «أراد معرفة رد فعلنا، نحن سكان بروكسل، تجاه الأميركيين وأراد معرفة إذا ما كنا لا نزال أصدقاء». والإجابة كانت بالإثبات.
وبعد ذلك بعقد، سيحضر الرئيس بوش الابن قمة للحلف عشية حرب العراق التي لم تكن تحظى بشعبية لدى الأوروبيين. لكن بوش احتل الصفحة الأولى من صحف بروكسل، بتوقفه للشراء عند متجر شهير للشيكولاتة. وأظهرت صور الصحافة عمال المتجر والابتسامة تملأ وجوههم أثناء انتقاء الرئيس لاختياراته. لكن حين ذهبت إلى المتجر في اليوم التالي كانت الابتسامات قد انقشعت. كان توقف الرئيس بوش هناك أمراً لطيفاً، بحسب قول إحدى العاملات في المتجر، لكن هذه اللافتة لم تغير وجهة نظرها عنه لأنها تعارض «الحروب وغير اللازم منها بخاصة». وكانت الاستجابة فاترة، حين قدم الرئيس في بروكسل تصوراً لرؤيته عن تغيير الحال في مناطق الاضطرابات في العالم من خلال نشر الديمقراطية. وربما كان الاستقبال البارد في أوروبا القديمة هو ما يفسر اختيار بوش براتيسلافيا- عاصمة سلوفاكيا- كجزء مما وصفه وزير دفاع بوش، دونالد رامسفيلد، باسم «أوروبا الجديدة»، لإلقاء خطبته في الهواء الطلق أمام جمهور أكثر تقبلاً.
وبعد نصف عقد، ستجد أوروبا نفسها مرة أخرى مشدوهة أمام رئيس أميركي آخر، على الأقل في بداية الأمر. لقد هب باراك أوباما كعاصفة على أوروبا في وقت مبكر وفاز بجائزة نوبل للسلام قبل أن يكمل عامة الأول في المنصب. ثم حضر أوباما قمة الحلف عام 2010، في العاصمة البرتغالية لشبونة. وعقد الزعماء الأوروبيون مؤتمراً صحفياً لإلقاء الضوء على السيارات الكهربائية التي لا تتسبب في أي انبعاثات مسببة للاحتباس الحراري. لكن السيد أوباما هو من احتل الصفحات الأولى في لشبونة والصحف الأوروبية الأخرى بوصفٍ مفصلٍ لسيارته الواقية من الرصاص التي تستهلك كميات كبيرة من الوقود.
ورغم خيبة أمل الأوروبيين في أوباما، لكن حتى هذه الخيبة لم تؤهلهم صدمة دونالد ترامب. لقد وصف ترامب بروكسل بأنها «حفرة الجحيم». وترامب هو الرئيس الذي شق طريقه وسط الرؤساء ليحتل المقدمة في «صورة أسرية» عادية في قمة الحلف عام 2017. ثم جاء وصف ترامب لنفسه بأنه «عبقري متزن تماماً». في مؤتمر صحفي لما بعد قمة 2018.
والآن وبعدما استقبلت بروكسل جو بايدن. وإذا صدر استطلاع رأي جديد لمركز بيو البحثي هذا الأسبوع، فسيكون من نتائجه أن بايدن دشن بداية جيدة بالفعل في تحسين وجهة نظر العالم تجاه الولايات المتحدة. فقد توصل استطلاع للرأي أجراه مركز «بيو» عن صورة أميركا عبر العالم في 16 دولة، إلى أن هناك معدل تأييد كبيراً يبلغ 75% لبايدن مقارنة مع 17% حققها ترامب العام الماضي. وارتفع التأييد العام للولايات المتحدة من 34% عام 2020 إلى 62% العام الجاري بحسب مركز بيو. وهنا اقتراحان يقدمهما مراقب منذ فترة طويلة للرؤساء الأميركيين في الحلف. المقترح الأول، أن يقود بايدن دراجة هوائية عبر أي من مسارات الدراجات في بروكسل. أو ماذا عن تناول البطاطس المقلية مع المايونيز؟ الرئيس سيأسر قلوب المدينة إذا توقف في أحد المطاعم وطلب البطاطس المقلية مع ملحقاتها مما يمثل طبقاً قومياً مفضلاً.
* كاتب أميركي متخصص في الشؤون الدبلوماسية
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»