وفقاً لتوقعات معظم الخبراء والاستراتيجيين، فإن عالم ما بعد كورونا سيكون مختلفاً تمام الاختلاف عن عالم ما قبل كورونا، وأضم صوتي إلى كل المتفائلين الذين يقولون بأن الجائحة يجب أن تدفع الجميع إلى رؤية الأزمة كفرصة يمكن الاستفادة منها. فالجائحة جعلت وستجعل كل الدول تضع استراتيجيات لتسريع الاستثمارات العامّة في مجالي الصحة والبنى التحتية. فصحة البشر واحدة من الأولويات التي لا يمكن تجاوزها ولا وضعها في سياسات عمومية ثانوية. كما أن الرصد المبكر للأمراض المعدية وللأوبئة والجوائح سيكون من أولويات المرحلة، خاصة إذا علمنا من تقرير أصدرته لجنة مستقلة للاستعداد للجوائح والاستجابة لها أنه كان بإمكان العالم تجنب جائحة «كوفيد-19»، لولا أن «مزيجاً ساماً» من التردد وسوء التنسيق حال دون رؤية مؤشرات الخطر. وقد أفادت اللجنة أن منظمة الصحة العالمية كان ينبغي لها أن تعلن حالة الطوارئ الصحية في وقت أبكر، وتحديداً خلال الاجتماع الأول للجنة الطوارئ في المنظمة يوم 22 يناير 2020.
كما أن صحّة البيئة ستوازي صحّة البشر أهميّةً وما يعنيه ذلك من التعامل الجاد مع التغير المناخي والقضاء على المخاطر التي تحدق بدول العالم من عواصف تزداد عتواً، وحرائق غابات متسعة، وفيضانات وموجات جفاف.. وكلها مرتبطة بتغير المناخ، إضافة إلى تلوث الهواء نتيجة حرق الوقود الأحفوري. لذا فسيكون هناك «نهج حكومي شامل» في أغلب دول العالم، إذ ستكون سلامة البيئة في قلب أمنها القومي وتخطيطها الداخلي. وقد رأينا مؤخراً إعلان الرئيس الأميركي جو بايدن عن حزمة جديدة من الإجراءات التنفيذية للتصدي للتغير المناخي، أبرزها وقف إصدار عقود جديدة تتعلق بمشروعات النفط والغاز على أراض اتحادية، وقطع الدعم عن استخراج الوقود الأحفوري.
كما ستصبح الروبوتات منتشرة في كلّ مكان، سيما أنها اليوم مستخدمة في جميع القطاعات كأعمال التوصيل وإجراء فحوصات «كوفيد-19»، وحتّى في المنازل، كما أنّ الخدمات الطبية الهاتفية باقية وستنتشر أكثر. ومؤكد أيضاً أن العديد من الأعمال ستشهد تحولاً في هياكلها إلى الصيغة الرقمية، وأن قسماً كبيراً من التجارة سينتقل إلى العالم الرقمي أيضاً.
وستكون الطاقات البديلة موضة العالم المقبل، فالتقارير تشير إلى أن دول الاتحاد الأوروبي استطاعت إنتاج احتياجاتها من الكهرباء بنسبة 40% من الطاقة البديلة متمثلةً في طاقتي الرياح والشمس. وسيعرف قطاع النقل، ممثلاً بصناعة السيارات والطائرات، تغيراً كاملاً في المستقبل القريب مع دخول السيارات والطائرات الكهربائية على الخط، وهو ما ستكون له تأثيرات هائلة على بقية القطاعات الأخرى.
وسيتغير مجال التعليم بشكل جذري وللأبد، وستكون الدول ملزمة بسياسات تعليمية جديدة تتضمّن تحويل بيئات التعلم، وبناء قدرات المعلمين، ودعم الشباب وتعبئتهم ومتابعة تقدمهم، وتمكين الأجيال الجديدة من الحصول على المعرفة والمهارات اللازمة لتعزيز التنمية المستدامة، من خلال التعليم من أجل التنمية المستدامة وأنماط الحياة الجديدة وحقوق الإنسان ومساواة الجنسين، وتعزيز ثقافة السلام، والمواطنة العالمية، وتقدير التنوع الثقافي، ومساهمة الثقافة في التنمية المستدامة.. وغيرها من المسلمات التي تبني مجتمعاً عالمياً قادراً على استيعاب الجميع وتحقيق التنمية.
وستبني الدول استراتيجيات تأخذ بعين الاعتبار وظائف المستقبل في عصر الروبوتات والذكاء الاصطناعي والطاقة البديلة والأوبئة والجوائح.. وهنا يتعين على جامعاتنا ومعاهدنا العربية التكيف مع التغيرات الجديدة والتخطيط لسوق العمل في ظل وجود عدد هائل من الخريجين الذين ترسلهم هذه الجامعات والمعاهد سنوياً إلى سوق عمل لا يستطيع استيعابهم.وسيأخذ التعليم الجديد بعين الاعتبار المجتمع الرقمي الافتراضي كثير الانتشار ومتشعب التخصصات؛ فنحن أمام إنسان عالمي جديد، هو إنسان افتراضي يمارس حياته بالكامل من خلال الاتصال بالشبكة، فهو يتعلم ويتاجر ويعمل ويتواصل ويشتري ويقرأ ويطالع.. من خلال الشبكة. إن عالم الإنترنت لم يعد مجرد وسيلة، بل أصبح طريقة عمل وأسلوب حياة ستطبع كل جوانب المرحلة المقبلة.
*أكاديمي مغربي