يقول تعالى: «مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ». من خلال هذه الآية الكريمة تشرق رسالة موجَّهة لكل شخص عاقل بأن يحفظ لسانه ويمسكه عن أي كلام فيه مضرة لمصلحته الشخصية والعامة، فإن ظهرت مصلحته وشعر بضرورة تغليبها، تكلم باتزان وعقلانية بما يدعم تلك المصلحة، سواء أكانت مصلحته هو أم مصلحة من ينوب عنهم، فالمحامي مثلاً إن أطلق الكلام على عواهنه وتكلم بمكروه، فالمضرة هنا لا تنعكس عليه فقط، بل على من وكّلوه ووثقوا به، فما بالكم بمن يمثل شعباً بأسره ثم ينطق في غير خير ليضر أهله وناسه، كما قال الزعيم والسياسي الفرنسي الكاردينال دي ريتز (1613 – 1679): «من الأخطر على الوزير أن يتفوّه بالحماقات من أن يرتكبها».
ومن كلام الحكماء: من نطق في غير خير فقد لغا، ومن نظر في غير اعتبار فقد سها، ومن سكت في غير فكر فقد لها.
وقيل أيضاً: لو قرأت صحيفتك لأغمدت صفيحتك، ولو رأيت ما في ميزانك لختمت على لسانك.
أثناء حكم القيصر الروسي نيكولاس الأول عام 1825 اندلعت مظاهرات عنيفة ضده، عُرفت بثورة «الديسمبريين» من قبل الليبراليين المطالبين بتحديث روسيا على غرار دول أوروبا التي كانت مؤسساتها المدنية والصناعية متقدمةً عكس روسيا، لكن القيصر تصدى لتلك المظاهرات وقمعها بعنف ووحشية، وأُلقي القبض على قائد المظاهرات ويُدعى كوندراني ريلييف وحُكم عليه بالإعدام شنقاً، وبعد إعداد وتجهيز منصة المشنقة، وقيام الجلاد بلف الحبل حول عنقه، وأثناء تنفيذ الحكم تدلى الحبل بكوندراني ثم انقطع ونجا المحكوم من الموت بأعجوبة فقال: «أرأيتم أن روسيا لا تقدر أن تصنع شيئاً حتى الحبال!».. في ذلك الوقت وفي حوادث مثل هذه من نجاة المحكوم بالإعدام، فإنه لا يُعاد تنفيذه بسبب تدخل العناية الإلهية، ويحصل المحكوم على عفو من قبل القيصر، لكن القيصر والذي كان متفاجئاً من تلك المعجزة، وأثناء توقيعه على قرار العفو عَلِم بما قاله كوندراني، فمزق القرار وقال: «علينا أن نثبت له عكس ما يقول»، وتمّ بالفعل تنفيذ الإعدام في اليوم التالي ولم ينقطع الحبل.
فكان بإمكان ذلك المعارض الذي خدمه الحظ أن يستكمل حياته بعد حدوث تلك المعجزة له، وكان من الممكن أن يكون انضباط لسانه هو الوسيلة الوحيدة الناجحة لنجاته، لكن تلفّظه بتلك الجملة القصيرة التافهة وهو في حالة انتشاء، دفعه إلى حتفه وساقه إلى الموت. وقد يكون المعنى المرادف لكلمة «نشوة» هو «السعادة»، لكنها حالة من الابتهاج الوقتي التي تؤدي إلى غياب العقل عن إدراك ما حوله، والنتيجة بالتالي تكون سلبية.
أيضاً أذكر قصة انهيار جدار برلين حين كانت ألمانيا مقسَّمة بين شرقية وغربية، وكان الجزء الشرقي تابعاً للمعسكر الاشتراكي، وقد حدثت زلة اللسان الأشهر حين عقد الناطق باسم حكومة ألمانيا الشرقية مؤتمراً صحفياً سُئل خلاله عن إمكانية إصدار قانون يسمح لمواطني ألمانيا الشرقية بالسفر إلى الغربية، فأجاب المتحدث بتسرّع ودون تفكير، ظناً منه أن القانون صدر بالفعل، قائلاً: القانون سيدخل حيز التنفيذ فوراً.. فكان أن خرج آلاف الشرقيين إلى المعابر صوب الغربية، ونتيجة الضغط الهائل عبروا الحدود وكانت بداية سقوط ما عرف بجدار برلين.
خلاصة القول في تلك القصص هي أن الكلمة التي تخرج من الفم لا تمكن إعادتها، وأن ثمنها قد يكون كبيراً جداً وباهظاً.
فإطلاق الشخص المسؤول لكلمات جوفاء لاذعة بلا قيمة، من أجل إشباع غروره أمام مَن ينظر إليهم بدونية، ستنجم عنه بلا شك نتائج وخيمة، وبل كارثية.
*كاتب إماراتي