استيقظ سكان الأعظمية - في عهدها العباسي عرفت نسبة لدفينها «محلة أبي حنيفة»- على صور لمرشدي إيران، وقائد فيلق القدس قاسم سليماني(قُتل: 2020) أمام ضريح أبي حنيفة النُّعمان(ت: 150هجريَّة)، كانت اللَّوحة مِن الضَّخامة، ليست عملاً طائشاً، مثلما حصل قبل سنوات، شباب يجولون وسط الأعظمية بشعارات حارقة، حاولوا الإزعاج، إنما احتاج هذا الفعل إلى آلة رافعة وثقة بالقوة، لذا فهي فعل تنظيم لا يخشى الناس ولا السلطة. كان ذلك في فجر 5مايو 2001، وظلت اللوحة مكانها حتى فجر اليوم التالي.
بعد إتمام المدينة المدورة بالكرخ من بغداد، عبرَ ولي العهد المهدي(ت 169هـ) دجلة وبنى معسكره، وقبل هذا، ضم ثرى الأعظمية رفات أبي حنيفة، ذلك قبل عمرانها العباسي، يوم كانت مقابر مهجورة(جواد وسوسه، خريطة بغداد). ويعطيك جعل قبر الإمام أبي حنيفة بين قبور مهجورة، طوال أكثر من مئة عام، أي بعد سقوط السَّاسانيين(17 هـ) وحتى إعادة إعمار بغداد (145هـ) إشارة لتأكيد ما نُقل أنَّ صاحبَ الضَّريح كان مغضوباً عليه.
شاهد ابن جبير قبة ضريحها (ت: 614هجريَّة): «بيضاء سامية في الهواء». وشاهدها ابن بطوطة (ت: 779هجريَّة): «قبة عظيمة، وزاوية فيها الطعام للوارد والصادر»(الرِّحلتان). إن المدن التي نشأت واحتفظت بوجودها حول ضريح أو مزار ظاهرة معروفة بالبلاد العراقية، نشأت الأعظمية معسكراً على دجلة، ونمت حول الضَّريح مدينةً. شأنها شأن جارتها، عبر دجلة، «الكاظمية»، نمت حول ضريحها، وأخذت اسم دفينها، وكانت مقبرة ملكية، دفن فيها خلفاء وأولاد خلفاء وأئمة مذاهب. كذلك الأعظمية أخذت اسم دفينها ثم لقبه «الإمام الأعظم» منذ العهد العثمانيَّ، مع أنَّ اللّقب عُرف مِن قبل(ابن الأثير، الكامل في التَّاريخ).
يقول لنَّا هذا التَّاريخ الموجز، أنَّ الأعظميَّة، ومنذ نشأة المذاهب(ق3 وق4 الهجريين)، حافظت على انتمائها المذهبي، مثلما احتفظت قرينتها، بالجانب الغربي، بهويتها، والنَّهر والجسر بينهما، سمّي بجسر الأئمة. لو غضضنا النَّظر عن الوطنيَّة، وما في قلوب ملايين العِراقيين مِن لوعة الحرب بين إيران والعِراق، وما حصل مِن عبث بعد 2003، وغض النَّظر أيضاً عن اختلاف الهوية المذَّهبيَّة، يبقى مرشدا الدّولة والثورة الإيرانية بعيدين عن أبي حَنيفة، فهما سياسيان والرجل لم يكن كذلك، ومَن يقرأ «تحرير الوسيلة» للخميني يجد فيها «أحكام أهل الذمة» لا تنسجم مع آراء أبي حنيفة المنفتحة، ولهذا الأليق بهما سيد قُطب(أعدم: 1966)، والخامنئي ترجم له «في ظلال القرآن»، و«المستقبل لهذا الدِّين»، إضافة إلى أن «الحاكميَّة الإلهية» تجمعهما، مع اختلاف الشَّكل.
تعدت القوى الطَّائفيَّة، الفاعلة بالشَّأن العراقي، مفهومَ «الطّائفيَّة» نفسه، أنَّ تعتز بمذهبك، وتتحدث على حياء ضد الآخر. أخذت تُمارس الآن الطَّائفية الفجة، بلا القيود، غايتها إشهار القوة، بسطوة الإسلام السِّياسي، الذي لو جرد منها لظل بلا أنياب.
ما حدث ليست مؤامرة «الاستكبار العالمي»، حسب مصطلحاتهم، إنما فعل يحمل رسالةً فحواها: هؤلاء «القادة» وهم «الأئمة»، مثلما قالوها: «ذوبوا...»، فعلى البغدادي الذوبان تحت هذه الصور، ومَن لا يعجبه، يواسي نفسه بالمنشئ الطغرائي (قُتل: 515هجريَّة) ولاميته الشهيرة: «فيمَ الإقامة بالزَّوراء لا سكني/ بها ولا ناقتي ولا جملي» (الحَموي، معجم الأدباء). أقول: لا يكفي إنزال تلك اللَّوحة، بعد احتجاج الأعظميين، إنما المرجو تحديد المسؤولية وإعلانها، فالفعل كان كارثياً.
* كاتب عراقي