يبدو أنه لا يوجد نقص في العناصر على قائمة العالم الخاصة بالأشياء التي ينبغي له القيام بها في العام الجديد، لكن عنصراً واحداً من المحتمل أن يتصدرها جميعاً، ألا وهو البحث عن أرضية مشتركة لمواجهة مجموعة من التحديات المشتركة، في وقت تتجاذبنا تيارات سياسية قوية.
لكن، هل تشرع تعددية الأطراف والتعاون في تدشين عودة ومواجهة قوى القومية الضيقة؟
هذا لن يكون سهلاً، ولن نعرف الجواب عليه إلا بعد مرور بعض الوقت. غير أن ثلاثياً من الاختبارات المبكّرة ربما يقدم لنا بعض المؤشرات المساعدة: وقف انتشار الوباء، وبدء اللقاحات من أجل وقفه، والتعاطي مع تداعياته الاقتصادية الضخمة.
وأحد المؤشرات إلى أن قدْراً جديداً من التعاون قد يكون ممكناً يأتي من مصدر ربما لا يخطر على البال: «شبح من ماضي السنة الجديدة»، إذا جاز لنا التلاعب بكلمات الروائي الإنجليزي تشارلز ديكنز.
السنة الجديدة موضوع الحديث هي 1919، في بداية الموجة الثالثة من وباء الإنفلوانزا الإسبانية. كانت تلك لحظة ذات أوجه شبه واضحة مع معاناتنا الحالية جراء «كوفيد-19». ولكن الأقل وضوحاً -وربما الأكثر دلالة وتعبيراً بالنسبة لـ2021- هو الاختلافات بين الاثنين.
مؤخراً، كنتُ أقرأ دليلاً إلى عالم الوباء من تأليف خبيرة قبل قرن من الزمن: الكاتبة العلمية البريطانية لورا سبيني، التي كان كتابها «الموت.. الإنفلوانزا الإسبانية لعام 1918 وكيف غيّرت العالم» جليسي خلال فترة عطلة الأعياد الأخيرة، والتي التزمتُ خلالها بعزلة ذاتية. إنه ليس من نوع الكتب التي قد تعتبرها يسيرةَ القراءة، ولكنه يحكي بأسلوب فصيح يشي بجهد واضح في البحث قصةَ وباء 1918-1919، والتي ترسم صورة تنبض بالحياة لحال العالم وقتئذ. والواقع أنه من الصعب ألا يندهش المرء من الاختلافات بين ذاك العالم وعالمنا اليوم، وكيف يمكنها أن تعزز فرص تعاون أكبر خلال الأشهر المقبلة.
أوجه الشبه بين الوباءين، من قبيل تأثير الردود المنطقية (زيادة النظافة، والتباعد الاجتماعي، والحجر الصحي والعزل، على سبيل المثال)، مثيرة للاهتمام.
غير أن الاختلافات هي التي يمكن أن تحمل الرسالة الأهم لمستقبلنا في مرحلة ما بعد الوباء. فحتى في أوائل العقد الأول من القرن العشرين، كان العالم مترابطاً، لذلك فقد انتشرت الإنفلوانزا حول العالم في ظرف بضعة أشهر. لكن عالمنا بات أكثر ترابطاً اليوم، والناس أكثر إدراكاً لتأثيرات الوباء على صعيد العالم، ولحسن أو سوء أداء حكوماتهم في جهود احتوائه.
في عام 1918، تقول سبيني: «كانت الهواتف نادرة. وكانت الاتصالات عبر المسافات البعيدة تتم عبر التلغراف أو حمام الزاجل، مثلما كان يحدث في أجزاء من الصين».
ثم هناك اختلاف آخر ذو صلة بين عالم 1919 وعالمنا في 2021، ألا وهو: الوتيرة السريعة جداً للقرارات السياسية. وفي هذا الإطار، تسجل سبيني سلسلة من التداعيات السياسية الناجمة عن الوباء قبل قرن من الزمن، غير أن العديد منها لم يتبلور إلا بعد سنوات على ذلك. أما في عالم اليوم، فإن وصولنا المباشر إلى المعلومات واتساع الاتصالات وسرعتها يضع ضغطاً على الحكومات ومؤسسات أخرى للرد على تداعيات الوباء بشكل أسرع بكثير.
وعليه، فهل ستتعاون الدول للتعاطي مع التحديات العالمية؟
على المدى القصير، هناك عراقيل بديهية، ليس أقلها الأولوية التي ستوليها معظم الحكومات للتعاطي مع الوباء في بلدانها.
لكن الحقيقة الواضحة على نحو لم يكن متاحاً في 1919 هي أن أي بلد لا يستطيع التعاطي مع الوباء وتداعياته بنجاح منفرداً. ذلك أنه إذا لم تتم السيطرة على «كوفيد-19» في أماكن أخرى، فإن هناك خطراً بديهيا لأن يعود الوباء. وإذا تُركت تأثيراته الاقتصادية المدمرة من دون علاج في الدول الفقيرة، فإن هناك احتمالاً كبيراً لزيادة جديدة في عدد المهاجرين الباحثين عن عمل وكسب لقمة العيش في البلدان الغنية.
وإذا جاز لنا الاسترشاد بالصورة الصاعدة بخصوص اللقاحات، فيبدو أن هناك بالفعل آفاقاً لفهم جديد على الأقل للتعاون.
صحيح أن القومية ما زالت قوة كبيرة، والحكومات تركز بشكل رئيسي على ضمان توافر أشياء لبلدانها، لكن الشركات التي وراء اللقاحات اعترفت علانيةً بالحاجة لتوفير إمدادات متاحة وكافية للجميع.
وفضلاً عن ذلك، أعلنت «كوفاكس»، وهي مبادرة تدعمها حكومات في العالم المتقدم ومؤسسات متعددة الأطراف مثل البنك الدولي وجهات مانحة خاصة مثل «مؤسسة بيل وميليندا غيتس».. أعلنت مؤخراً عن اتفاقات جديدة تتيح لها إمكانية الوصول إلى قرابة 2 مليار جرعة لقاح من أجل التوزيع في العالم النامي.
أما إن كان هذا النوع من المقاربات التعاونية سيمتد إلى التعافي الاقتصادي، فذلك يعتمد على درس آخر من دروس 1919 لا يتعلق بالسياسة بقدر ما يتعلق بالطبيعة الإنسانية. فعندما بدأت الإنفلوانزا الإسبانية في الانتشار، تكتب سبيني: «كانت أفضل احتمالات نجاتك هي أن تكون أنانياً بالكامل. فعلى افتراض أنك تملك مكاناً يمكن أن تسميه بيتاً، فإن الاستراتيجية كانت هي لزومه.. وعدم الإجابة على الهاتف.. وحماية مخزونك من الطعام والماء، وتجاهل كل طلبات المساعدة.. غير أنه بشكل عام لم يكن الناس يفعلون هذا، وكانوا يتواصلون مع بعضهم بعضاً». هذه النزعة كانت قاتلةً أحياناً على مستوى فردي في 1919. غير أنها في 2021، على مستوى عالمي، قد تكون سبب نجاتنا!ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»